عن احترام دعوته والإيمان بها ، حتى وصل إلى نهاية التجربة التي لم يترك أيّ باب من أبوابها إلّا ودخل فيه ، ولم يدع أسلوبا من أساليب الإقناع إلّا واستعمله ، فكان تقريره النهائي الذي قدّمه إلى الله ـ سبحانه ـ في نهاية التجربة الطويلة المريرة ، دعوة إلى تدمير كل هذا المجتمع ، لأن المسألة لم تعد تحتمل التجربة الجديدة بعد استنفاد كل التجارب ، وأصبح الواقع الكافر يمثل أعلى مستوى من الخطورة على الأجيال القادمة التي سوف تعيش في مجتمع مغلق على الكفر ، ممنوع من الانفتاح على الإيمان ، بفعل مراكز القوى المتحالفة ضد الرسالة والرسول.
وهذا هو ما فكر فيه نوح النبي الداعية ، عند ما دعا الله أن لا يدع من الكافرين ديّارا ، فقد أثار بعدها الحيثيات الواقعية التي تؤكد ذلك : (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) ولهذا فلم تكن القضية لديه قضية اليأس الطارئ في ما يمثله من الحالة النفسية المتعبة التي يعيشها بعض الدعاة عند ما يواجهون التمرّد العنيف القاسي من الناس الذين يحيطون بهم ، بل كانت القضية لديه قضية الواقعية العملية التي استكملت كل عناصر التجربة فلم تجد هناك أيّ مجال لتجربة جديدة توحي بالأمل ، بينما كان الدعاة الآخرون اليائسون يمتلكون الفرصة في أكثر من تجربة قادمة في ما يختزنه مستقبل الدعوة من التجارب الواقعية ، مما يجعل من تجربة نوح التجربة الرائدة التي تمثّل الإصرار على السير في الدعوة بعيدا عن كل تهاويل اليأس الذاتي الذي ينطلق من الملل والتعب وحبّ الابتعاد عن الضغوط والتحدّيات المضادّة.
* * *
نموذج نبوي
وهكذا قدّم الله لرسوله وللمؤمنين معه ومن بعده هذه التجربة الرسالية ،