على عدم التذاذ المحبين بنعيم الآخرة ولذّاتها الحسّية.
وتوهّم أنّ الاكل والشّرب واللبس وغيرها من المشتهيات النفسانيّة والنعم الجسمانية كلها دفع الألم فانّ الأكل مثلا إنّما هو لسدّ الجوع وبعده لا لذة فيه أصلا ، وكذا البواقي وحيث إنّه لا شيء من الآلام في الجنّة فلا يمكن التنعّم بتلك النّعم.
مدفوع بعد الغضّ عمّا فيه بأنّه لا يقاس النّعم الاخرويّة بشيء من النّعم الدّنيويّة الّتي يراد أكلها وشربها لدفع ألم الجوع والعطش ولباسها للتوقي عن الحر والبرد ونكاحها للتوالد وحفظ النوع ، وذلك لأنّ بينهما بونا بيّنا فانّ للنعم الأخروية من النّور والسّرور والصفاء والبهاء ما لا يدركه عقول أهل الدنيا بل لا شركة بينهما إلّا في الاسم على وجه الاستعارة والتمثيل لا الحقيقة ، على أنّ ذلك يفضي إلى سدّ باب الجنّة الحسيّة مطلقا ولا ينبغي لمن آمن بالله وبرسوله وباليوم الآخر أن يسدّها على نفسه ، هذا مضافا إلى أن الجنّة المعقولة كما تتصور في ثمرات العلوم والمعارف والابتهاج بالأنوار القدسيّة وغيرها من النّعم الروحانيّة الّتي لوّح عليها بقوله : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) (١) ، وبقوله في الوحي القديم أعددت لعبادي الصّالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر (٢) كذلك يمكن حصولها في ضمن التنعم بالمستلذات الجسمانية سيّما مع ما هو المعلوم من قوّة مشاعرهم وزيادة قواهم وصفاء حواسهم بحيث لا يكاد يشغلهم تنعم عن تنعم ولا توجه عن توجه ولا ادراك عن ادراك على ما هو المقرّر في محل آخر.
ولذا قال شيخنا المجلسي رحمهالله أن للتّلذذ بالمستلذات الجسمانية أيضا مراتب ودرجات بحسب اختلاف أحوال أهل الجنّة ، فمنهم من يتلذذ بها كالبهائم يرتعون في رياضها ويتمتعون بنعيمها كما كانوا في الدّنيا من غير استلذاذ بقرب
__________________
(١) السجدة : ١٧.
(٢) بحار الأنوار : ج ٨ ص ١٩١ ج ١٦٨.