مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) (١) فانّها دلّت على أنّ ذكره تعالى لعدة خزنة النّار امتحان منه لعباده ليتميّز به المخلص من المرتاب فآل الأمر إلى أن صلح به قوم وفسد آخرون ثمّ أشار أخيرا إلى أنّه بمثل ذلك (يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) (٢) يعني أن ذلك هو المراد من إضلاله وهدايته ، وذلك أنّ هذه كلّها محن وفتن لاختبار العباد وابتلائهم فيقال لمن ضلّ عند الفتنة : أضلّته الفتنة وأضلّه الله بها كما يقال للفضّة إذا أدخلتها النّار فظهر فسادها : أفسدتها وأفسدتها النّار ، والحال أنك لم تجعل فيها الفساد ولم تشعر النار بفسادها ويقال لمن اعطى غيره مالا جزيلا فظهر فيه الغرور والطغيان : إنك أطغيت فلانا بالمال وأطغاه المال ، ومثل هذا الإطلاق كثير جدّا في العرف واللغة لاكتفائهم في باب الاضافة والنّسبة بأدنى الملابسة.
وأمّا ما ذكره بعض المشككين تضعيفا لهذا المعنى وذهابا إلى مذهب المجبرة من أنّ إنزال هذه المتشابهات إن لم يكن له أثر في اقدامهم على ترجيح جانب الضّلالة على جانب الاهتداء كانت نسبتها إلى ضلالتهم كنسبة صرير الباب ونعيق الغراب فكما أنّ ضلالهم لا ينسب إلى شيء من هذه الأمور الاجنبيّة فكذلك يجب أن لا ينسب إلى هذه المتشابهات بوجه ما وإن كان له اثر في تحريك الدّواعي إلى الضلالة وجب أن يوجبه لما قرّر في محلّه من أنّه متى حصل الرّجحان فلا بدّ أن يحصل الوجوب لنفي الواسطة بين الاستواء وبين الوجوب المانع من النقيض فإذا أثر في ترجيح الضلالة فقد أوجبها وهو الجبر المطلوب سلّمنا أنّه لا ينتهى إلى حدّ
__________________
(١) المدثر : ٣٠.
(٢) المدثر : ٣١.