(وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ) المتكثّرة على صدقه ، من المعجزات والاستدلالات ، أي : لم يحضر لتصحيح قوله بيّنة واحدة ، ولكن بيّنات عدّة (مِنْ رَبِّكُمْ) أضافه إليهم بعد ذكر البيّنات احتجاجا عليهم ، واستدراجا لهم إلى الاعتراف به.
ثمّ أخذهم بالاحتجاج على طريقة التقسيم من باب الاحتياط ، فقال : لا يخلو من أن يكون كاذبا أو صادقا (وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ) يعود عليه ، ولا يتخطّاه وبال كذبه ، فيحتاج في دفعه إلى قتله (وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) فلا أقلّ من أن يصيبكم بعضه إن تعرّضتم له.
وفيه مبالغة في التحذير ، وإظهار للإنصاف والمداراة والتلطّف وعدم التعصّب ، كقوله : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (١). فجاء بما علم أنّه أقرب إلى تسليمهم لقوله ، وأدخل في تصديقهم له وقبولهم منه ، ولذلك قدّم كونه كاذبا. ثمّ قال : (بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ) ، ولم يقل : يصبكم جميع الّذي يعدكم ، مع أنّ موسى نبيّ صادق لا بدّ لما يعدهم أن يصيبهم كلّه. والمراد بالبعض : عذاب الدنيا ، وهو بعض مواعيده. كأنّه خوّفهم بما هو أظهر احتمالا عندهم.
(إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) احتجاج ثالث. ومعناه : لو كان موسى مسرفا كذّابا لما هداه الله إلى ما يدّعي من النبوّة ، ولما عضده بتلك المعجزات.
ويحتمل أن يكون معناه : أنّ من خذله الله وأهلكه ولم يستقم له أمر فلا حاجة لكم إلى قتله. ولعلّه أراد به المعنى الأوّل ، وخيّل إليهم الثاني لتلين شكيمتهم ، وعرّض به لفرعون بأنّه مسرف كذّاب لا يهديه الله سبيل الصواب وطريق النجاة. ويجوز أن يكون ذلك ابتداء كلام من الله تعالى.
__________________
(١) سبأ : ٢٤.