والاستقبال ؛ والمذكور في الآية النفي في الحال والاستقبال ، وحذف الماضي من جهته ومن جهتهم ؛ ولا بد من نفيه ، لكنه حذف لدلالة الأولين عليه.
وفيه تقدير آخر ؛ وهو أن الجملة الأولى فعلية ، والثانية اسمية ، وقولك : [١٦٤ / ب] «لا أفعله ولا أنا فاعله» أحسن من قولك : «لا أفعله ولا أفعله» ؛ فالجملة الفعلية نفي لإمكانه ، والاسمية نفي لاتّصافه ، كما في قوله تعالى : (وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ) (الروم : ٥٣) ، (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) (فاطر : ٢٢). والمعنى أنه تبرّأ من فعله ومن الاتّصاف به ، وهو أبلغ في النفي ؛ وأما المشركون فلم ينتف عنهم إلا بصيغة واحدة ؛ وهي قوله : (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) (الكافرون : ٣) في الموضعين.
٣ / ٢٢ وفرق آخر ، وهو أنه قال في نفيه الجملة الاسمية : (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) (الكافرون : ٤) ، وقال في النفي عنهم : (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) (الكافرون : ٣) عائد في حقه بين الجملتين ، وقال : (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) (الكافرون : ٢) بالمضارع ، وفي الثاني : (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) (الكافرون : ٤) بالماضي ، فإن المضارع يدل على الدوام ، بخلاف الماضي ، فأفاد ذلك أنّ ما عبدتموه ولو مرّة ما أنا عابد له البتّة ، ففيه كمال براءته ودوامها ممّا عبدوه ولو مرّة ؛ بخلاف قوله : (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) (الكافرون : ٢) ، فإن النفي من جنس الإثبات ، وكلاهما مضارع يظهران جملة ومنفردا.
ومنه تكرير الأمر بالتوجه إلى البيت الحرام في ثلاث آيات من سورة البقرة ؛ لأن المنكرين لتحويل القبلة كانوا ثلاثة أصناف من الناس : اليهود ؛ لأنهم لا يقولون بالنسخ في أصل مذهبهم. وأهل النفاق أشدّ إنكارا له ، لأنه كان أول نسخ نزل. وكفار قريش قالوا : ندم محمد على فراق ديننا فيرجع إليه كما رجع إلى قبلتنا ، وكانوا قبل ذلك يحتجون عليه فيقولون : يزعم محمد أنه يدعونا إلى ملّة إبراهيم وإسماعيل ؛ وقد فارق قبلتهما وآثر عليها قبلة اليهود ؛ وقال الله تعالى حين أمره بالصلاة إلى الكعبة : (لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) (البقرة : ١٥٠) والاستثناء منقطع ، أي لكن الذين ظلموا منهم لا يرجعون ولا يهتدون. وقال سبحانه : (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) (البقرة : ١٤٧) أي الذين أشركوا فلا تمتر في ذلك ، وقال تعالى : (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (البقرة : ١٤٦) ، أي يكتمون ما علموا أن الكعبة هي قبلة الأنبياء.
ومنه قوله تعالى : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ* وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ) (الصافات :