منها : أن التكرار فيها مع سائر الألفاظ لم يوقع في اللفظ هجنة ، ولا أحدث مللا ، فباين بذلك كلام المخلوقين.
ومنها : أنه ألبسها زيادة ونقصانا وتقديما وتأخيرا ؛ ليخرج بذلك الكلام أن تكون ألفاظه ٣ / ٢٨ واحدة بأعيانها ، فيكون شيئا معادا ؛ فنزّهه عن ذلك بهذه التغييرات.
ومنها : أن المعاني التي اشتملت عليها القصة الواحدة من هذه القصص صارت متفرقة في تارات التكرير فيجد البليغ لما فيها من التغيير ميلا إلى سماعها ، لما جبلت عليه النفوس من حبّ التنقل في الأشياء المتجددة التي لكل منها حصة من الالتذاذ به مستأنفة.
ومنها : ظهور الأمر العجيب في إخراج صور متباينة في النظم بمعنى واحد ؛ وقد كان المشركون في عصر النبي صلىاللهعليهوسلم يعجبون من اتساع الأمر في تكرير هذه القصص والأنباء مع تغاير أنواع النظم ، وبيان وجوه التأليف ، فعرّفهم الله سبحانه أن الأمر بما يتعجبون منه مردود إلى قدرة من لا يلحقه نهاية ، ولا يقع على كلامه عدد ؛ لقوله تعالى : (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي) [١٦٦ / أ](وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً) (الكهف : ١٠٩) وكقوله : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ ...) (لقمان : ٢٧) الآية.
وقال القفّال في تفسيره (١) : ذكر الله في أقاصيص بني إسرائيل وجوها من المقاصد :
أحدها : الدلالة على صحة نبوّة محمد صلىاللهعليهوسلم ؛ لأنه أخبر عنها من غير تعلّم ؛ وذلك لا يمكن إلا بالوحي.
الثاني : تعديد النعم على بني إسرائيل ، وما منّ الله على أسلافهم من الكرامة والفضل ؛ كالنجاة من آل فرعون ، وفرق البحر لهم ، وما أنزل عليه في التيه من المنّ والسلوى ، وتفجّر الحجر وتظليل الغمام.
الثالث : إخبار الله نبيّه بتقديم كفرهم وخلافهم وشقاوتهم وتعنتهم على الأنبياء ، فكأنه تعالى ٣ / ٢٩
__________________
(١) هو محمد بن علي بن إسماعيل القفّال ، تقدمت ترجمته في ٢ / ٩٦. وتفسيره ذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء ١٦ / ٢٨٥ وقال : «قال أبو الحسن الصّفّار : سمعت أبا سهل الصعلوكي وسئل عن تفسير أبي بكر القفّال ، فقال : قدّسه من وجه ، ودنّسه من وجه ، أي دنّسه من جهة نصره للاعتزال». والتفسير ذكره أيضا البغدادي في هدية العارفين ٢ / ٤٨.