يزعم أنه متقدّم في هذه العلوم ، وأحب أن يمتحن ، فوجّه إليه ، فلمّا مثل بين يديه والمجلس قد احتفل خجل فرفع المنصور محلّه وأقبل عليه ، وسأله عن أبي سعيد السيرافي ، فزعم أنه لقيه وقرأ عليه كتاب سيبويه ، فبادره العاصمي بالسؤال عن مسألة من الكتاب ، فلم يحضره جوابها ، واعتذر بأن النحو ليس جلّ بضاعته ، فقال له الزبيدي : فما تحسن أيّها الشيخ؟ فقال : حفظ الغريب ، قال : فما وزن أولق (١) ، فضحك صاعد ، وقال : أمثلي يسأل عن هذا؟ إنما يسأل عنه صبيان المكتب ، قال الزبيدي : قد سألناك ، ولا نشكّ أنك تجهله ، فتغيّر لونه ، وقال : أفعل وزنه ، فقال الزبيدي : صاحبكم ممخرق (٢) ، فقال له صاعد ، إخال الشيخ صناعته الأبنية ، فقال له : أجل ، فقال صاعد : وبضاعتي أنا حفظ الأشعار ، ورواية الأخبار ، وفكّ المعمّى ، وعلم الموسيقى ، فقال : فناظره ابن العريف ، فظهر عليه صاعد ، وجعل لا يجري في المجلس كلمة إلّا أنشد عليها شعرا شاهدا ، وأتى بحكاية تجانسها (٣) ، فأعجب المنصور ، ثم أراه كتاب «النوادر» لأبي علي القالي ، فقال : إن أراد المنصور أمليت على كتّاب دولته كتابا أرفع منه وأجلّ لا أورد فيه خبرا ممّا أورده أبو علي ، فأذن له المنصور في ذلك ، وجلس بجامع مدينة الزاهرة يملي على كتابه المترجم ب «الفصوص» ، فلمّا أكمله تتبعه (٤) أدباء الوقت ، فلم تمرّ فيه كلمة صحيحة عندهم ، ولا خبر ثبت لديهم ، وسألوا المنصور في تجليد كراريس بياض تزال جدتها ، حتى توهّم القدم ، وترجم عليه كتاب «النكت» تأليف أبي الغوث الصنعاني ، فترامى إليه صاعد حين رآه ، وجعل يقبله ، وقال : إي والله ، قرأته بالبلد الفلاني على الشيخ أبي فلان ، فأخذه المنصور من يده خوفا أن يفتحه ، وقال له : إن كنت قد قرأته كما تزعم ، فعلام يحتوي؟ فقال : وأبيك لقد بعد عهدي به ، ولا أحفظ الآن منه شيئا ، ولكنه يحتوي على لغة منثورة لا يشوبها (٥) شعر ولا خبر ، فقال له المنصور : أبعد الله مثلك! فما رأيت أكذب منك ، وأمر بإخراجه ، وأن يقذف كتاب «الفصوص» في النهر ، فقال فيه بعض الشعراء : [بحر السريع]
قد غاص في النهر كتاب الفصوص |
|
وهكذا كلّ ثقيل يغوص |
فأجابه صاعد : [بحر السريع]
عاد إلى معدنه ، إنما |
|
توجد في قعر البحار الفصوص |
__________________
(١) الأولق : بفتح الهمزة وسكون الواو على وزن فوعل : الجنون.
(٢) ممخرق : مموه ، كذاب.
(٣) في ب : يجانسها.
(٤) تتبعوه : أي لا حقوه بالنقد.
(٥) لا يشوبها : لا يخالطها.