فطار ابن العريف بها ، وعلّقها على ظهر كتاب بخطّ مصريّ ومداد أشقر ، ودخل بها على المنصور ، فلمّا رآها اشتدّ غيظه على صاعد ، وقال للحاضرين : غدّا أمتحنه ، فإن فضحه الامتحان أخرجته من البلاد ، ولم يبق في موضع لي عليه سلطان ، فلمّا أصبح وجّه إليه فأحضر ، وأحضر جميع الندماء ، فدخل بهم إلى مجلس محفل قد أعدّ فيه طبقا عظيما فيه سقائف مصنوعة من جميع النواوير ، ووضع على السقائف لعب من ياسمين في شكل الجواري ، وتحت السقائف بركة ماء ، قد ألقي فيها اللآلئ مثل الحصباء ، وفي البركة حيّة تسبح ، فلمّا دخل صاعد ورأى الطبق قال له المنصور : إنّ هذا يوم إمّا أن تسعد فيه معنا ، وإمّا أن تشقى بالضدّ عندنا ؛ لأنه قد زعم قوم أنّ كلّ ما تأتي به دعوى ، وقد وقفت من ذلك على حقيقة ، وهذا طبق ما توهّمت أنه حضر بين يدي ملك قبلي شكله ، فصفه بجميع ما فيه ، وعبّر بعض عن هذه القصة بقوله : أمر فعبىء له طبق فيه أزهار ورياحين وياسمين وبركة ماء حصباؤها اللؤلؤ ، وكان في البركة حيّة تسبح ، وأحضرها صاعد ، فلمّا شاهد ذلك قال له المنصور : إنّ هؤلاء يذكرون أن كلّ ما تأتي به دعوى لا صحّة لها ، وهذا طبق ما ظننت أنه عمل لملك مثله ، فإن وصفته بجميع ما فيه علمت صحّة ما تذكره ، فقال صاعد بديهة : [بحر الطويل]
أبا عامر ، هل غير جدواك واكف؟ |
|
وهل غير من عاداك في الأرض خائف (١) |
يسوق إليك الدهر كلّ غريبة |
|
وأعجب ما يلقاه عندك واصف |
وشائع نور صاغها هامر الحيا |
|
على حافتيها عبقر ورفارف (٢) |
ولمّا تناهى الحسن فيها تقابلت |
|
عليها بأنواع الملاهي الوصائف |
كمثل الظّباء المستكنّة كنّسا |
|
تظلّلها بالياسمين السقائف (٣) |
وأعجب منها أنهنّ نواظر |
|
إلى بركة ضمّت إليها الطرائف (٤) |
حصاها اللآلي سابح في عبابها |
|
من الرّقش مسموم الثعابين زاحف (٥) |
ترى ما تراه العين في جنباتها |
|
من الوحش حتى بينهنّ السلاحف |
__________________
(١) الجدوى : العطاء. والواكف : الهاطل.
(٢) النور : الزهر ، أو الأبيض منه.
(٣) الكنس : الضباء اللواتي دخلن الكناس ، والكناس مستتر الظبي من الشجر لأنه يكنس في الرمل حتى يصل.
(٤) في الذخيرة «صمّت إليه الظرائف».
(٥) في الذخيرة «مسموم اللعابين راجف».