فاستغربت له يومئذ تلك البديهة في مثل ذلك الموضع ، وكتبها المنصور بخطّه ، وكان إلى ناحيته من تلك السقائف سفينة فيها جارية من النوّار تجذف بمجاذيف من ذهب لم يرها صاعد ، فقال له المنصور : أحسنت ، إلّا أنك أغفلت ذكر المركب والجارية ، فقال للوقت :
وأعجب منها غادة في سفينة |
|
مكلّلة تصبو إليها المهاتف (١) |
إذا راعها موج من الماء تتّقي |
|
بسكّانها ما أنذرته العواصف |
متى كانت الحسناء ربّان مركب |
|
تصرّف في يمنى يديه المجاذف |
ولم تر عيني في البلاد حديقة |
|
تنقّلها في الراحتين الوصائف |
ولا غرو أن شاقت معاليك روضة |
|
وشتها أزاهير الرّبا والزخارف (٢) |
فأنت امرؤ لو رمت نقل متالع |
|
ورضوى ذرتها من سطاك نواسف (٣) |
|
||
إذا قلت قولا أو بدهت بديهة |
|
فكلني له إني لمجدك واصف (٤) |
فأمر له المنصور بألف دينار ومائة ثوب ، ورتّب له في كل شهر ثلاثين دينارا ، وألحقه بالندماء.
قال : وكان شديد البديهة في ادّعاء الباطل ، قال له المنصور يوما : ما الخنبشار؟ قال : حشيشة يعقد بها اللبن ببادية الأعراب ، وفي ذلك يقول شاعرهم : [بحر الوافر]
لقد عقدت محبّتها بقلبي |
|
كما عقد الحليب الخنبشار (٥) |
وقال له يوما ، وقد قدّم إليه طبق فيه تمر : ما التّمركل في كلام العرب؟ فقال : «يقال تمركل الرجل تمركلا» إذا التفّ في كسائه. وكان مع ذلك عالما.
قال : وكان لابن أبي عامر فتى يسمّى فاتنا أوحد لا نظير له في علم كلام العرب ، فناظر صاعدا هذا فقطعه وظهر عليه وبكّته ، فأعجب المنصور منه ، فتوفي فاتن هذا سنة ٤٠٢ ، وبيعت في تركته كتب مضبوطة جليلة مصحّحة ، وكان منقادا لما نزل به من المثلة فلم يتّخذ النساء كغيره ، وكان في ذلك الزمان بقرطبة جملة من الفتيان المخانيث ممّن أخذ بأوفر نصيب من الأدب.
__________________
(١) في الذخيرة «المهايف».
(٢) لا غرو : لا عجب.
(٣) متالع ورضوى : جبلان. والنواسف : جمع ناسفة ، وهي اسم فاعل من نسف ، أي قلع.
(٤) كلني : اتركني.
(٥) في ب : «كما عقد الحليب بخنبشار».