وأهلكهم وشرّدهم وشتّتهم وصادرهم (١) ، وأقام من صنائعهم من استغنى به عنهم ، وصادر الصقالبة ، وأهلكهم ، وأبادهم في أسرع مدّة.
قال ابن حيان : وجاشت (٢) النصرانية بموت الحكم ، وخرجوا على أهل الثغور فوصلوا إلى باب قرطبة (٣) ، ولم يجدوا عند جعفر المصحفي غناء ولا نصرة ، وكان ممّا أتى عليه أن أمر أهل قلعة رباح بقطع سدّ نهرهم ، لما تخيله من أنّ في ذلك النجاة من العدوّ ، ولم تقع (٤) حيلته لأكثر منه ، مع وفور الجيوش وجموم الأموال ، وكان ذلك من سقطات جعفر ، فأنف محمد بن أبي عامر من هذه الدّنيّة ، وأشار على جعفر بتبديد (٥) الجيش بالجهاد ، وخوّفه سوء العاقبة في تركه ، وأجمع الوزراء على ذلك ، إلّا من شذّ منهم ، واختار ابن أبي عامر الرجال ، وتجهّز للغزاة (٦) ، واستصحب مائة ألف دينار ، ونفذ بالجيش ، ودخل على الثغر الجوفي (٧) ، ونازل حصن الحافة ، ودخل الرّبض ، وغنم وقفل فوصل الحضرة بالسبي بعد اثنين وخمسين يوما ، فعظم السرور به ، وخلصت قلوب الأجناد له ، واستهلكوا في طاعته لما رأوه من كرمه.
ومن أخبار كرمه ما حكاه محمد بن أفلح غلام الحكم قال : دفعت إلى ما لا أطيقه من نفقة في عرس ابنة لي ، ولم يبق معي سوى لجام محلّى ، ولمّا ضاقت بي الأسباب قصدته بدار الضّرب حين كان صاحبها ، والدراهم بين يديه موضوعة مطبوعة ، فأعلمته ما جئت له ، فابتهج بما سمعه منّي ، وأعطاني من تلك الدراهم وزن اللجام بحديده وسيوره ، فملأ حجري ، وكنت غير مصدق بما جرى لعظمه ، وعملت العرس ، وفضلت لي فضلة كثيرة ، وأحبّه قلبي حتى لو حملني على خلع طاعة مولاي الحكم لفعلت ، وكان ذلك في أيام الحكم قبل أن يقتعد ابن أبي عامر الذّروة.
وقال غير واحد : إنه صنع يومئذ قصرا من فضّة لصبح أمّ هشام ، وحمله على رؤوس الرجال ، فجلب حبّها بذلك ، وقامت بأمره عند سيّدها الحكم ، وحدّث الحكم خواصّه بذلك ، وقال : إنّ هذا الفتى قد جلب عقول حرمنا بما يتحفهم به ، قالوا : وكان الحكم لشدّة نظره في علم الحدثان يتخيّل في ابن أبي عامر أنه المذكور في الحدثان ، ويقول لأصحابه: أما تنظرون
__________________
(١) صادرهم : أراد صادر أموالهم وأملاكهم.
(٢) جاشت النصرانية : ثارت.
(٣) في الذخيرة : «فجاء صراخهم إلى باب قرطبة».
(٤) في ب : «لم تتسع».
(٥) في ب : «بتجريد».
(٦) الغزاة ، بفتح العين : الغزوة.
(٧) في ب : «إلى الثغر الجوفي إلى جليقية».