والكفاءة والنزاهة والصرامة في الحق ، ولا يلوينك عن الحقيقة جاهل أو مكابر يبطر الحق فيوهمنّك أن عزوفه عن المناصب كان اتقاء لبطش السلطان ؛ فلم يكن لمثله أن ينأى عن الميدان وقد توافرت له العدة والعتاد ، وإنما كانت له شروط لقبول المنصب ، تنطوي على إصلاح لحال الأزهر ، وإحلال علمائه المكانة اللائقة بهم ، وكانت السلطة الحاكمة تدخر للأزهر وعلمائه مآلات أخرى ، وحسبك من هذا التاريخ ـ غير البعيد ـ تلك العبارات المقتضبة التي لا يتسع المقال لما يفوقها بسطا ، وحسبك أن تستشف رأيه فيما شابه ذلك من أمور من إحدى الترجمات التي أعدّها عن واحد من سلف الأمة الصالح ، وهاك طرفا من مقاله عن الإمام العلامة ابن قيّم الجوزية :
«سبحانك ربي! ما أجلّ حكمتك! وما أبدع تدبيرك! من كان يظن أن ابن القيّم الذي قضى حياته كلها مضطهدا ، معذب القلب ، مؤرق الجفن ، لا لشيء غير النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ، يصبح بعد أن تمضي ستة قرون ، وهو من أول من يتنافس الناس في بعث مؤلفاته وقراءتها وتحصيلها ، من كان يظن ذلك وقد كان الناس إلى عهد قريب جدّا يتهمون من يذكر اسم ابن القيّم واسم شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية بالمروق والزندقة والإلحاد وما أشبه هذه الأوصاف؟ وإنما يتعزى أصحاب ابن القيّم عما لقيه من الهضيمة والعنت في حياته ، بأن ذلك كله لم يثنه عما رسمه لنفسه ، ولم يعقه عن السير في طريقه ، فلا يتوهمنّ متوهم أنه لو لقي من إقبال الخاصة والعامة ما هو خليق به وبأمثاله ، لكان له إنتاج فوق ما صنعه أو أكثر مما صنعه ، فما كان الجحود ونكران الحق على مستحقيه بعائق لذوي المبادئ القويمة عن أن يسيروا قدما إلى ما يهدفون ، ذلك لأنهم لم يفكروا في الناس ، وإنما فكروا للناس ولصالح الناس ، وعلموا أن المثوبة من لدن العليم الخبير».
ولقد كانت ثمّ قضايا ثلاث تمحور حولها جهاده ، وتبلورت من خلالها ألمعيته وإنجازاته ، وهي قضايا : اللغة العربية ، والتراث ، والأزهر ، والقضايا الثلاث تلتقي في أمور عدة ؛ فإن افترقت فهي تلتقي بعد عنده ؛ فإن بحثت في أمور العربية ألفيته إمامها ـ غير منازع ـ والمنافح الأول عنها ، وإن تطرقت إلى التراث فهو رائد بعثه وإحيائه وإن شغلت بهمّ من هموم الأزهر وجدته أكثر اهتماما به ، ووجدت عنده الدواء الذي