«ما تركنا» موصول بمعنى الذي محلّه رفع بالابتداء ، و «تركنا» صلته ، والعائد محذوف : أي تركناه ، و «صدقة» خبر ما هذه على رواية الرفع ، وهو أجود ؛ لموافقته لرواية «ما تركنا [ه] فهو صدقة» وأما النصب فتقديره : ما تركنا مبذول صدقة ، فحذف الخبر لسد الحال مسدّه مثل (وَنَحْنُ عُصْبَةٌ)(١) ، ويجوز في «ما» أن تكون موصولا اسميّا كما تقدم ، وأن تكون شرطية ؛ فما على الأول في محل رفع ، وعلى الثاني في محل نصب (٢) ، والمعنى : أي شيء تركناه فهو صدقة.
ويكون المنصوب على الاختصاص بلفظ «أي» فيلزمها في هذا الباب ما يلزمها
__________________
(١) سورة يوسف ، الآية : ١٤.
والتنظير بهذه الآية الكريمة على قراءة نصب «عصبة» على أنه حال ، وخبر المبتدأ ـ الذي هو نحن ـ محذوف ، وأصل الكلام : ونحن نرى عصبة ، فأما على القراءة المشهورة برفع «عصبة» فنحن مبتدأ خبره «عصبة» ولا كلام لنا فيها الآن ، ومثل الآية في قراءة النصب قولهم : حكمك لك مسمطا ، ومعناه : حكمك لك مثبتا ، فمسمطا : حال ، والخبر محذوف ، والتقدير : حكمك حاصل لك حال كونه مثبتا.
(٢) اعلم أنك إذا رويت الحديث هكذا «ما تركناه فهو صدقة» جاز لك وجهان في «ما» أحدهما : أن تكون موصولا اسميّا بمعنى الذي مبتدأ وجملة «تركناه» صلة لا محل لها من الإعراب ، وجملة «فهو صدقة» من المبتدأ وخبره في محل رفع خبر المبتدأ الذي هو «ما» الموصولة ، واقتران خبر المبتدأ بالفاء على هذا الوجه جائز ، لشبه الموصول بالشرط ، فأنت تقول «الذي يؤدي واجبه فله عندي مكافأة سنية» بدون أن تجد في ذلك حرجا ، والوجه الثاني : أن تكون ما اسم شرط ، وتركناه فعل الشرط وفاعله ومفعوله ، وجملة «فهو صدقة» في محل جزم جواب الشرط ، واقتران هذه الجملة بالفاء على هذا الوجه واجب ، لأن جواب الشرط إذا كان جملة اسمية وجب أن تقترن بالفاء ، وحينئذ يكون قول المؤلف «فما على الأول في محل رفع ، وعلى الثاني في محل نصب» ليس مستقيما ، لأن ما على الوجهين في محل رفع ، أما على اعتبارها موصولا اسميّا فظاهر ، وأما على اعتبارها شرطية فلأن فعل الشرط إذا كان متعديا واستوفى مفعوله كانت ما في محل رفع بالابتداء ، وإذا كان فعل الشرط متعديا ولم يستوف مفعوله فإن ما تكون مفعولا به مقدما لهذا الفعل ، فلو أنك رويت الحديث هكذا «ما تركنا فهو صدقة» لكان كلام المؤلف مستقيما : إن جعلت «ما» موصولا اسميّا بمعنى الذي فهو في محل رفع مبتدأ ، وإن جعلتها اسم شرط فهو في محل نصب مفعول به تقدم على عامله ، والذي وجدناه في جميع النسخ هو إثبات الهاء هكذا «ما تركناه فهو صدقة» ونحن نعتقد أن هذه الهاء زيادة من المتأخرين على المؤلف ممن وقع الكتاب بأيديهم ؛ لأنهم ظنوا أنها ضرورية لتمام استدلال المؤلف على أنه رأى كون «ما» موصولا اسميّا مبتدأ صلته «تركنا» و «صدقة» خبره ، وذلك على الرواية الأولى التي هي «ما تركناه صدقة» أجود ، مع أننا نقرر أن الهاء لا تلزم لكي يتم هذا الاستدلال ، وبيان ذلك أنه يريد أن يقول ، إن جعل صدقة مرفوعا على أنه خبر ما أجود وأقوى لأنه يوافق الرواية الأخرى التي هي «فهو صدقة» إذ يلزم أن يكون قوله «فهو صدقة» خبرا إذا قدرت ما موصولا اسميّا ، ولا يجوز جعل «فهو صدقة» حالا ، فالغرض إنما هو نفي أن يكون صدقة حالا ، لأن جملة الحال لا تقترن بالفاء ، فتنبه لهذا فإنه مما لا ينبغي الإعراض عنه.