حاجة ماسة إلى أن نظهرهم على الآفاق الواسعة والآراء الناضجة المؤسسة على سعة الاطلاع ونفاذ البصيرة وبراعة العرض وحسن الترجيح ، وقد تكفل هذا الكتاب ـ على صغر حجمه ـ بالكثير من ذلك» (١).
والحديث عن تحقيق كتب التراث قد يمتد ما شاء الله له أن يمتد دون أن نوفيه حقه من التمام ، وإلى ما يتسع له المقال ، وإنما تبقى نقطة نكتفي بالإشارة إليها ؛ فلن تعدم بعد كل ما أسفلنا لك حاسدا ، أو منتسبا للعلم دونما أهلية ، أو نفرا من العاملين في تحقيق التراث يلقون في أذنك أوهاما وأكاذيب تهدف إلى الانتقاص من قدر الرجل ومن قيمة جهده وعمله ، فمنهم من لا يرى في العمل وجها من صواب ما لم يطابق أعمال المستشرقين ، وما لم يجر على سنن المنهجية التى ادعوها لأنفسهم ، ومع ما في ذلك الاعتقاد من سقطات ظاهرة ، ومع منافاته للعلمية التي ينتحلونها ، فإنا نشدد في لفت انتباهك لئلا نعير مثل أولاء التفاتا ، وقل لهم ـ إن خاطبوك ـ سلاما ، فقد قيل في الإمام الشافعي رحمهالله ما قيل ، وقيل عن الإمام أبي حنيفة النعمان فوق ذلك ، بل عدّه العقيلي من الضعفاء ، فأين الذين أسرفوا في القول في هذين الإمامين الجليلين منهما الآن؟ بل أين الذين انتقصوا من قدر الإمام الحافظ السيوطي؟ وأين أولئك الذين كفّروا أتباع الإمامين الجليلين ابن تيمة وابن القيّم؟ ونكتفي بإحالتك لتلك الأمثلة وإن تكاثرت النماذج في القديم والحديث ، ثم بإحالتك إلى القاعدة المعروفة التي وضعها علماء الأصول بردّ شبهات المعاصرين ، وتبقى شهادة التاريخ مصدقة لقول العليم الحكيم : (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ.)
«ويمثل الأستاذ محمد محيي الدين عبد الحميد فلسفة لغوية لها منهجها ودقتها وعمقها ، فهو يرى ضرورة تربية الحسّ اللغوي لينتهي بصاحبه إلى الذوق الأدبي ، ويبدأ بالكلمة لينتهي إلى الأسلوب فالأدب نفسه ، ودور الكلمة في الأدب دور كبير ، وأثرها في بناء العمل الأدبي ضخم وجليل.
__________________
(١) من مقدمة كتاب «الطرق الحكمية» لابن قيم الجوزية.