له أصالته ونفاسته ، وبقي ـ مع ذلك ـ من أهل البلاد جماعة لم تلن قناتهم ، ولم تتحطم أعوادهم ، ولم تفتر عزائمهم ، ولم يخدعهم ذلك البريق ، ولكنهم تطامنوا للعاصفة الهوجاء وقبعوا في أماكنهم ـ لا ضعفا ولا استكانة ، ولا رهبة ولا خوفا ، ولا رضا بما عليه الناس من حولهم ـ ليعدوا أنفسهم وليهيئوا الجو الصالح ، وليبصروا قومهم في حذر وترقب ، حتى إذا اكتمل الوعي وجاء وعد الانتفاضة هبّوا ، فإذا الناس يهبّون معهم من كل جانب ، وإذا معدن الشرق الأصيل الكريم يظهر على حقيقته ، وإذا أبناء الشرق جميعا يتقدمون للعمل وينتظرون التوجيه ، وإذا الاستعمار يتخاذل ويستخذي ويتضاءل ، ثم إذا هو يضع عصاه على كتفه ويحاول النجاء.
ويتلفت المصلحون وينظرون فيما يعيدهم أمة قوية حية ناهضة عزيزة مرهوبة الجانب ، فيجدون أن لا مناص لهم من العودة إلى الماضي المجيد ، يصلون به حاضرهم ويبنون عليه مستقبلهم ، الماضي المجيد بوحدته التي تصمد وتتعاون وتتساند وتتكافل ، ويكون معها الجميع كجسد واحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى ، وبحضارته التي بهرت أنظار العالم ولم تبخل على أحد بشيء منها ، ولم تحاول التغرير بأحد ولا استغلاله ولا الاستعلاء عليه ، ولم تدّع لنفسها ما ليس لها ، ولا زيفت التاريخ وغضت من حضارات سبقتها واقتبست هي منها ، لأنها غنية بمفاخرها وأمجادها ، فليست بها حاجة إلى أن تسلب أمجاد غيرها ولا مفاخرهم ، ولأنها حضارة بنيت على مكارم الأخلاق واحترام المثل العليا ، وليس من مكارم الأخلاق ولا من احترام المثل العليا أن تنسب لنفسها ما هو من صنيع غيرها» (١).
ثم يضيف :
«وقد أظهر ناشر هذا الكتاب من البراعة والحذق في اختياره ، في هذه الفترة التي نجتازها اليوم ، ما هو خليق بالتقدير والثناء ، فنحن في حاجة ماسة إلى نظرة فاحصة في تشريعاتنا في الدماء والأموال والأحوال الشخصية ، ونحن في حاجة ماسة إلى أن يطلع أهل الرأي منا على آراء الشريعة الإسلامية وقواعدها العامة في ذلك كله ، ونحن في
__________________
(١) من مقدمة كتاب «الطرق الحكمية» لابن قيم الجوزية.