وهذا التقسيم تبعت فيه بعضهم ، والتحقيق خلافه ، وأن الكلام ينقسم إلى خبر وإنشاء فقط ، وأن الطلب من أقسام الإنشاء ، وأن مدلول «قم» حاصل عند التلفظ به لا يتأخر عنه ، وإنما يتأخر عنه الامتثال ، وهو خارج عن مدلول اللفظ ، ولما اختصّ هذا النوع بأن إيجاد لفظه إيجاد لمعناه سمّي إنشاء ، قال الله تعالى : (إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً)(١) [الواقعة ، ٣٥] أي أوجدناهن إيجادا.
(إنّا) إنّ واسمها ، والأصل إننا ؛ فحذفت النون الثانية تخفيفا (أَنْشَأْناهُنَّ) فعل ماض وفاعل ومفعول ، والجملة فى موضع رفع على أنها خبر إنّ (إنشاء) مصدر مؤكد ، والضمير في (أَنْشَأْناهُنَّ) ، قال قتادة : راجع إلى الحور العين المذكورات قبل ، وفيه بعد ، لأن تلك قصة قد انقضت جملة ، وقال أبو عبيدة : عائد على غير مذكور ، مثل (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) [ص ، ٣٢].
والذي حسّن ذلك دلالة قوله سبحانه وتعالى : (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) [الواقعة ، ٣٤] على المعنى المراد [وقيل : عائد على الفرش ، وأن المراد الأزواج (٢) ، وهن مرفوعات على
__________________
مخاطبه ترك اللعب طلبا جازما ، ولأن المتكلم بالاستفهام نحو أزيد عندك طالب من مخاطبه أن ينبئه عن مضمون هذا الكلام ، وإن كان الكلام لا يصح أن يخبر عنه بأنه صدق أو كذب وكان مع ذلك لا يدل بالوضع على أن المتكلم به طالب من المخاطب شيئا فهو الإنشاء ، وهذا الإنشاء ينقسم إلى قسمين ، وذلك لأنه إما أن يدل بدلالة الالتزام على الطلب ، وإما ألا يدل على الطلب أصلا ، لا بالوضع ولا بالالتزام ، والنوع الأول من هذين يشمل العرض ، والتحضيض ، والتمني ، والرجاء ، والنداء ، والجملة الأولى من جملتي القسم ، والنوع الثاني يختص بالجمل الخبرية المستعملة في الإنشاء مثل صيغ العقود ، كبعت ، واشتريت ، ووهبت ، وتزوجت ، وقبلت ، وهذا التقسيم غير مرضي عند محققي العلماء ، وعندهم أن الكلام ينقسم إلى قسمين لا ثالث لهما ، وأنه إما خبر ، وإما إنشاء.
(١) وقال أبو حيان : «والضمير في أنشأناهن عائد على الفرش ، في قول أبي عبيدة ، إذ هن النساء عنده ، وعلى ما دل عليه الفرش إذا كان المراد بالفرش ظاهر ما يدل عليه من الملابس التي تفرش ويضطجع عليها» اه.
وحاصل هذا الكلام أن لفظ الفرش في قوله تعالى قبل الآية التي تلاها المؤلف (وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ) إما أن يكون المراد به ظاهره ، وإما أن يكون المراد به النساء ، فإن كان المراد به النساء فالضمير المنصوب في (أَنْشَأْناهُنَّ) عائد إلى الفرش بهذا المعنى ، وإن كان المراد به ظاهره فالضمير عائد إلى النساء التي يشير إليها لفظ الفرش من باب إطلاق اللفظ الدال على المحل وإرادة الحال فيه أو على ما يجاوره ، فهو على الوجهين يراد به النساء ، ولكنه على الوجه الأول حقيقة ، والتجوز في لفظ الفرش ، وعلى الوجه الأخير مجاز مرسل علاقته الحالية والمحلية أو المجاورة.
(٢) إطلاق الفرش على الأزواج مجاز ، وهو من باب إطلاق اسم المحل على الحال فيه كما قلنا آنفا ، أو من باب إطلاق اسم الشيء على ما يجاوره ، فهو مجاز مرسل على الحالين غير أن علاقته الحالية والمحلية على الوجه الأول ، وعلاقته المجاورة على الوجه الثاني.