يقتنع في الصباح على أساس بعض الأوضاع النفسية أو بعض الأحداث الطارئة بما لا يتأثر به في المساء ، باعتبار اختلاف الأوضاع والأحداث ، مما يجعل الرسول أو الداعية في حالة ملاحقة دائمة ورصد دقيق لحركة الناس اليومية ، فلعلّ ذلك الإصرار على التبليغ في مدار الساعة يحقق شيئا من التقدم في قناعاتهم. ولكنّ قوم نوح كانوا بعيدين عن ذلك ، لأنهم قرروا الرفض الحاسم للرسالة وللرسول ، فأغلقوا آذانهم عن السماع ، وعقولهم عن التفكير ، وألسنتهم عن الحوار. وهذا ما عبر عنه نوح في تقريره الرسالي إلى ربه : (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً) من الحقيقة الدامغة التي تفرض نفسها عليهم ، وتنفذ إلى عقولهم ، وتنساب في مشاعرهم ، وتطبق على وجودهم ، فيفرون منها كما لو كان هناك خطر كبير يتهدّدهم ليخرجهم من واقعهم الذي اعتادوا عليه ، ويربك عاداتهم وتقاليدهم التي ورثوها من أجدادهم ، ولذلك فإن الرسول الماثل أمامهم يمثل الرمز لهذا الخطر ، فيفرون منه وهو الضعيف بينهم في نظرهم ، كما لو كان يريد الإطباق عليهم لافتراسهم.
(وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ) بدعوتهم للسير في خط الهدى بالتزام الإيمان بالله (جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) خوفا من أن تنفذ كلمات الرسالة إلى أسماعهم ، فتمتد في عقولهم ، وتأخذ عليهم قناعاتهم ، فيتصورونها كما لو كانت مطارق صاخبة تثير الضجيج الشديد في آذانهم ، فيغلقون آذانهم عنها (وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ) فغطوا وجوههم بثيابهم ليتفادوا رؤية الرسول الذي يجسّد لهم الخطر القادم من الرسالة ضد الواقع الذي يحرسونه بكل وجودهم ، (وَأَصَرُّوا) على الكفر والضلال ، (وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً) في ما توحيه إليهم أوضاعهم المالية والاجتماعية من الكبرياء التي تجعلهم يستعلون على من حولهم من الناس الضعفاء الذين لا يملكون مالا ولا موقعا اجتماعيا متقدما بين الناس ، فيقودهم الاستكبار إلى رفض الأفكار الرسالية التي توحّد بين الناس وتساوي بينهم في إنسانيتهم ، وتلغي الفروق الطبقية فيما بينهم ، لا سيّما