صلاة أخرى ومن أيّ عمل آخر. وإذا كان الليل هو زمن الصفاء والهدوء عند ما تخلد كل الموجودات الحيّة للراحة ، ويبسط الظلام ظلّه على الأرض ليمنحها الاستغراق في الاسترخاء الهادىء ، فإن الكلمة عند ما تتحرك فيه من بين الشفتين ، تمثل العذوبة والحلاوة والروحانية والصفاء والنقاء التي تفتح النفس على الحقيقة ، فلا يشوبها غموض ولا تعقيد ، ولا يقترب منها الباطل ، وبذلك تكون أقوم في المعنى ، وفي الجوّ وفي الحركة ، لأنها لا تنطلق من بين الضجيج ، بل تتحرك من عمق الهدوء الذي يمنح الفكر انطلاقه وانفتاحه وعمقه وامتداده في الحياة ... وهكذا يريد الله لنبيه وللدعاة معه ومن بعده أن يستغرقوا في قيام الليل ، لتوحي له الصلاة بالروح القوية التي تثبّت الإنسان في مواقف الاهتزاز ، وفي مواقع التحديات ، ولتفتح له الفكر القويم من خلال الشخصية القوية التي تواجه الضعف من قاعدة الإيمان.
(إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً) من جهة ما يخوض فيه الناس من أشغال ومهمات وأوضاع على مستوى الدعوة والحركة والعلاقة والتحدي والصراع ، تماما كما هي السباحة في الماء التي يواجه فيها السابحون التيارات القويّة ، فينزلون إلى الأعماق تارة ، ويمتدون مع التيار أحيانا ، ويرتفعون مع الأمواج الطاغية أحيانا أخرى ، لتأخذ كل الحركة من جهدهم البدني ، ومن هدوئهم النفسي ، مما لا يدع لهم أيّ شعور بالفراغ ، وأيّ إحساس بالانفتاح على الذات وعلى الحياة ، ولهذا كان الليل ساحة الذكر والقيام والروحانية ، والهدوء المنساب مع صفاء الظلام.
(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ) لأن الذكر المتواصل الدائم يفتح في قلبك نافذة على الله ، فلا يتطلّع القلب إلى غيره ، ولا يغفل عنه ، فينبض بمحبته وبالرغبة إليه في مواقع الرجاء ، وبالخشية منه في مواقع الخوف ، وبذلك تتصل حياتك بالله ، وتندمج بوحيه المتحرك في أوامره ونواهيه ، وتتربّى على الروحية التي تنساب في كل معاني العظمة والجلال والجمال في ذاته ، لتكون في أفكارك