ولمّا كانوا استعجلوا ذلك استهزاء قال : (اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) من تكذيبك ، فإنّ وبال ذلك يعود عليهم (وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ) واذكر لهم قصّة داود ، تعظيما للمعصية في أعينهم ، فإنّه مع علوّ شأنه واختصاصه بعظائم النعم والمكرمات ، وكمال زلفته عند الله سبحانه ، لمّا زلّ زلّة من ترك الأولى ، وبّخه الملائكة بالتمثيل والتعريض حتّى تفطّن فاستغفر ربّه وأناب ، ووجد منه ما يحكي عن بكائه الدائم وغمّه الواصب (١) ، ولا يزال مجدّدا للندم عليها ، فما الظنّ بكم مع كفركم وفرط معاصيكم؟! أو تذكّر قصّته ، وصن نفسك أن تزلّ فيما كلّفت من مصابرتهم وتحمّل أذاهم ، فيلقاك ما لقيه من المعاتبة على إهماله.
(ذَا الْأَيْدِ) ذا القوّة في الدين والعبادة. يقال : رجل أيد وذو أيد وأياد ، بمعنى ما يتقوّى به. وروي : أنّه يقوم نصف الليل ، ويصوم نصف الدهر ، كان يصوم يوما ويفطر يوما ، وذلك أشدّ الصوم.
وقيل : ذا القوّة على الأعداء وقهرهم. وذلك لأنّه رمى بحجر من مقلاعه صدر رجل ، فأنفذه من ظهره فأصاب آخر فقتله.
وقيل : معناه : ذا التمكين العظيم ، والنعم الجليلة. وذلك أنّه كان يبيت كلّ ليلة حول محرابه ألوف كثيرة من الرجال.
(إِنَّهُ أَوَّابٌ) توّاب ، رجّاع عن كلّ ما يكره الله إلى ما يحبّ. من : آب يؤوب إذا رجع. وهذا تعليل للأيد ، ودليل على أنّ المراد به القوّة في الدين.
(إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ) قد سبق (٢) تفسير تسخير الجبال مع داود.
و «يسبّحن» حال وضع موضع : مسبّحات ، لاستحضار الحال الماضية ، والدلالة على تجدّد التسبيح من الجبال حالا بعد حال.
__________________
(١) أي : الدائم.
(٢) راجع ج ٤ ص ٣٤٣ ، ذيل الآية ٧٩ من سورة الأنبياء.