وقيل : هذا إخبار عن صلح الحديبية. وإنّما سمّاه فتحا ، لأنّه كان بعد ظهوره على المشركين حتّى سألوا الصلح ، وتسبّب لفتح مكّة ، وأدخل في الإسلام خلقا عظيما. وظهر له في الحديبية آية عظيمة ، وهي أنّه نزح ماؤها حتّى لم يبق فيها قطرة. فتمضمض رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ثمّ مجّه فيها ، فدرّت بالماء حتّى شرب جميع من كان معه. وقيل : فجاش الماء حتّى امتلأت ، ولم ينفد ماؤها بعد.
وعن عروة ـ وقد ذكر خروج النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم عام الحديبية ـ قال : وخرجت قريش من مكّة ، فسبقوه إلى بلدح (١) وإلى الماء ، فنزلوا عليه. فلمّا رأى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّه قد سبق نزل على الحديبية ، وذلك في حرّ شديد ليس فيها إلّا بئر واحدة ، فأشفق القوم من الظمأ ، والقوم كثير ، فنزل فيها رجال يمتحنوها. ودعا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بدلو من ماء ، فتوضّأ من الدلو ، ومضمض فاه ثمّ مجّ فيه ، وأمر أن يصبّ في البئر. ونزع سهما من كنانته وألقاه في البئر ، فدعا الله تعالى ففارت بالماء ، حتّى جعلوا يغترفون بأيديهم منها وهم جلوس على شفتها.
وروى سالم بن أبي الجعد قال : قلت لجابر : كم كنتم يوم الشجرة؟ قال : كنّا ألفا وخمسمائة. وذكر عطشا أصابهم. قال : فأتي رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بماء في تور (٢) ، فوضع يده فيه ، فجعل الماء يخرج من بين أصابعه كأنّه العيون ، فشربنا ووسعنا وكفانا.
وعن موسى بن عقبة : أقبل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم من الحديبية راجعا ، فقال رجل من أصحابه : «ما هذا بفتح ، لقد صدّونا عن البيت ، وصدّ هدينا. فبلغ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم فقال : «بئس الكلام هذا ، بل هو أعظم الفتوح ، وقد رضي المشركون أن يدفعوكم عن بلادهم بالراح (٣) ، ويسألوكم القضيّة ـ أي : رجوعكم عنهم ـ ويرغبوا إليكم في الأمان ، وقد رأوا منكم ما كرهوا».
__________________
(١) بلدح : واد قبل مكّة من جهة المغرب.
(٢) التّور : إناء يشرب فيه.
(٣) الراح : الخمر. والراح جمع راحة ، وهي : الكفّ. والراح : الارتياح والنشاط. ولعلّ الظاهر هنا المعنى الثالث.