روي عن أنس : أنّ ثابت بن قيس كان في أذنه وقر (١) ، وكان جهوريّا ، فلمّا نزلت تخلّف عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فتفقّده ودعاه فسأله ، فقال : يا رسول الله لقد أنزلت إليك هذه الآية ، وإنّي رجل جهير الصوت ، فأخاف أن يكون عملي قد حبط. فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لست هناك ، إنّك تعيش بخير وتموت بخير ، وإنّك من أهل الجنّة».
ثمّ مدح سبحانه من يعظّم رسوله ويوقّره ، فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ) يخفضون (أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) مراعاة للأدب إجلالا له ، أو مخافة عن مخالفة النهي (أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) جرّبها (لِلتَّقْوى) ومرّنها عليها. من قولك : امتحن فلان لأمر كذا ، وجرّب له ، ودرّب للنهوض به ، فهو مضطلع به ، غير وان (٢) عنه. والمعنى : أنّهم صابرون على التقوى ، أقوياء على احتمال مشاقّها.
وقيل : وضع الامتحان موضع المعرفة ، لأنّ تحقّق الشيء باختباره ، كما يوضع الخبر موضعها. وحينئذ تكون اللام متعلّقة بمحذوف. فكأنّه قيل : عرفها كائنة للتقوى ، خالصة لها. ويجوز أن تكون متعلّقة بالفعل باعتبار الأصل ، إذ المعنى : ضرب الله قلوبهم بأنواع المحن والتكاليف الشاقّة لأجل التقوى. لأنّ حقيقة التقوى لا تعلم إلّا عند المحن والشدائد ، والاصطبار على التقوى. أو أخلصها للتقوى ، من قولهم : امتحن الذهب ، إذا أذابه وميّز إبريزه (٣) من خبثه ونقّاه.
(لَهُمْ مَغْفِرَةٌ) لذنوبهم (وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) لغضّهم وسائر طاعاتهم.
واعلم أنّ هذه الآية بنظمها الّذي رتّبت عليه ، من إيقاع الغاضّين أصواتهم اسما لـ «إنّ» المؤكّدة ، وتصيير خبرها جملة من مبتدأ وخبر معرفتين معا ، والمبتدأ اسم الإشارة ، ثمّ استئناف الجملة المستودعة ما هو جزاؤهم على عملهم ، وإيراد
__________________
(١) وقرت أذنه وقرا : ثقلت أو ذهب سمعه.
(٢) ونى يني : فتر وضعف وكلّ وأعيا ، فهو : وان.
(٣) الإبريز : الذهب الخالص. وهي كلمة يونانيّة.