أطمّ (١) وهجنته أتمّ ، من الصياح برسول الله في حال خلوته ببعض حرماته من وراء الجدر ، كما يصاح بأهون الناس قدرا ، لينبّه على فظاعة ما أجروا إليه وجسروا عليه ، لأنّ من رفع الله قدره عن أن يجهر له بالقول ، حتّى خاطبه جلّة المهاجرين والأنصار بأخي السرار ، كان صنيع هؤلاء من المنكر الّذي بلغ من التفاحش مبلغا. ومن هذا وأمثاله يقتطف ثمر الألباب ، وتقتبس محاسن الآداب.
ثمّ أدّبهم الله تعالى بقوله : (وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا) في محلّ الرفع على الفاعليّة ، لأنّ المعنى : ولو ثبت صبرهم ، فإنّ «أنّ» وإن دلّت بما في حيّزها على المصدر ، دلّت بنفسها على الثبوت ، ولذلك وجب إضمار الفعل. والصبر حبس النفس عن أن تنازع إلى هواها. قال الله تعالى : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ) (٢). وهاهنا المفعول محذوف. والتقدير : ولو ثبت حبسهم أنفسهم عمّا تنازع إلى هواها من المناداة وراء الحجرات (حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ) أي : الصبر مغيّا بخروجه.
والمعنى : أنّ خروج رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم غاية قد ضربت لصبرهم ، فما كان لهم أن يقطعوا أمرهم دون الانتهاء إليها ، فإنّ «حتّى» مختصّة بغاية الشيء في نفسه ، ولذلك تقول : أكلت السمكة حتّى رأسها ، ولا تقول : حتّى نصفها ، بخلاف «إلى» فإنّها عامّة. وفي «إليهم» إشعار بأنّه لو خرج لا لأجلهم ينبغي أن يصبروا حتّى يفاتحهم بالكلام ، أو يتوجّه إليهم.
(لَكانَ) الصبر (خَيْراً لَهُمْ) من الاستعجال ، لما فيه من حفظ الأدب وتعظيم الرسول الموجبين للثناء والثواب ، والإسعاف بالمسؤول ، إذ روي أنّهم وفدوا شافعين في أسارى بني العنبر كما مرّ ، فأطلق النصف وفادى النصف ، فلو أنّهم صبروا لأطلق كلّهم بغير فداء.
__________________
(١) أي : أعظم. والهجنة : العيب والقبح.
(٢) الكهف : ٢٨.