روي عن ابن عبّاس : أنّ نفرا من بني أسد قدموا المدينة في سنة جدبة ، فأظهروا الشهادتين ، وأفسدوا طرق المدينة بالعذرات ، وأغلوا أسعارهم ، وهم يغدون ويروحون على رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ويقولون : أتتك العرب بأنفسها على ظهور رواحلها ، وجئناك بالأثقال والذراري ، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان ، يريدون الصدقة ويمنّون عليه ، فنزلت :
(قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا) إذ الإيمان تصديق مع ثقة وطمأنينة قلب ، ولم يحصل لكم وإلا لمّا مننتم على الرسول بالإسلام وترك المقاتلة كما دلّ عليه آخر السورة (وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) فإن الإسلام ـ الّذي هو انقياد ـ دخول في السلم وإظهار الشهادة. وترك المحاربة يشعر به.
وكان نظم الكلام أن يقول : لا تقولوا آمنّا ولكن قولوا أسلمنا ، أو لم تؤمنوا ولكن أسلمتم. فعدل منه إلى هذا النظم احترازا من النهي عن القول بالإيمان والجزم بإسلامهم. فإنّه لو قيل : ولكن أسلمتم لكان خروجه في معرض التسليم لهم والاعتداد بقولهم ، وهو غير معتدّ به ، لفقد شرط اعتباره شرعا ، وهو التصديق القلبي. فأفاد هذا النظم تكذيب دعواهم أوّلا ، ودفع ما انتحلوه ، فقيل : «قل لم تؤمنوا». وروعي في هذا النوع من التكذيب أدب حسن حين لم يصرّح بلفظه ، فلم يقل : كذبتم ، ووضع «لم تؤمنوا» الّذي هو نفي ما ادّعوا إثباته موضعه. ثمّ نبّه على ما فعل من وضعه موضع : كذبتم ، في قوله بعد في صفة المخلصين : (أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (١) تعريضا بأنّ هؤلاء هم الكاذبون.
(وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) توقيت لـ «قولوا» ، فإنّه حال من ضميره ، أي : ولكن قولوا : أسلمنا ، ولم تواطئ قلوبكم ألسنتكم بعد. ولمّا كان فائدة قوله : (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا) تكذيب دعواهم ، وقوله : (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) توقيت
__________________
(١) الحجرات : ١٥.