وقد يخلّ بذلك لمقصود آخر ؛ كما في قوله تعالى : (ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها) (الكهف : ٤٩) وعلى قياس ما قلنا ينبغي الاقتصار على صغيرة ، وإن ذكرت الكبيرة منها فلتذكر أولا.
وكذلك قوله [تعالى] : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما) (الإسراء : ٢٣) وعلى ذلك القياس يكفي «لهما أف» أو يقول «ولا تنهرهما» ، «فلا تقل لهما أف» ؛ وإنما عدل عن ذلك للاهتمام بالنهي عن التأفيف ، والعناية بالنهي ؛ [حتى] (١) كأنه قال : نهى عنه مرتين : مرة بالمفهوم ، وأخرى بالمنطوق.
وكذلك قوله تعالى : (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) (البقرة : ٢٥٥) فإنّ النوم غشية ثقيلة تقع على القلب تمنعه معرفة الأشياء ، والسّنة مما يتقدمه من النعاس ، فلم يكتف بقوله : (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ) (البقرة : ٢٥٥) ؛ دون ذكر النوم ؛ لئلا يتوهم أن السّنة إنما لم تأخذه لضعفها ، ويتوهم أن النوم قد يأخذه لقوته ؛ فجمع بينهما لنفي التوهمين ، أو السّنة [٢٣٦ / ب] في الرأس ، والنعاس في العين ، والنوم في القلب ؛ تلخيصه هو منزه عن جميع المفتّرات ، ثم أكّد نفي السنة والنوم بقوله : ([لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ] (٢) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) (البقرة : ٢٥٥) لأنّه خلقهما بما فيهما ، والمشاركة إنما تقع فيما فيهما ، ومن يكن له ما فيهما ؛ فمحال نومه ومشاركته ؛ إذ لو وجد شيء من ذلك لفسدتا بما فيهما.
وأيضا فإنه يلزم من [نفي] (٣) السّنة نفي النوم أنه لم يقل : لا ينام (٤) ؛ وإنما قال : (لا ٣ / ٤٠٥ تَأْخُذُهُ) (البقرة : ٢٥٥) [يعني] (٥) لا تغلبه ؛ فكأنه يقول : لا يغلبه القليل ولا الكثير من النوم. والأخذ في اللغة بمعنى القهر والغلبة ؛ ومنه سمّي الأسير : مأخوذا وأخيذا. وزيدت «لا» في قوله : (وَلا نَوْمٌ) (البقرة : ٢٥٥) لنفيهما عنه بكل حال ، ولو لاها لاحتمل ان يقال : لا تأخذه سنة و [لا] (٥) نوم في حال واحدة ، وإذا ذكرت صفات فإن كانت للمدح فالأولى الانتقال فيها من الأدنى إلى الأعلى ؛ ليكون المدح متزايدا بتزايد الكلام ؛
__________________
(١) ليست في المخطوطة.
(٢) ليست في المطبوعة.
(٣) ليست في المخطوطة.
(٤) عبارة المخطوطة (ان قال لا ينام).
(٥) ليست في المخطوطة.