النهضة أساتذة أجلاء على رأسهم المغفور له الأستاذ محمد محيى الدين عبد الحميد ، إنه آنذاك عرضت عليه العروض لكي يمتنع عن مناصرة تلك الثورة ، ولكي يبتعد عن الوقوف بجانب أبنائه ، ولكنه لم تلن له قناة ، ولم يخضع لتهديد ، ولم يأبه لوعيد ، وذلك خلق قويّ في تلك الفترة العصيبة التي يدركها الجميع ، ظل أستاذنا على هذا الوضع إلى أن صدر قرار بنقله مدرسا إلى معهد الإسكندرية انتقاما لموقفه المشرف ، فلم يزده ذلك إلا إصرارا على مناصرة الحق ، وإلا إصرارا على السير في ركاب الحرية ، وإلا إصرارا على الوقوف في وجه أولئك الطغاة الذين لا همّ لهم إلا أن يكبتوا الأنفاس ، ويخمدوا الأرواح الطاهرة البريئة ، وقد أراد الله للأزهر أن ينتصر ، وأراد الله أن تعود الدراسة بعد تعطيلها ، وأن يعود أستاذنا إلى كليته موفور الكرامة ، مرفوع الهامة ، مظلّا لأبنائه بظله الوارف القويّ ، لا يأخذه زهو العلم ، ولكنه كان كالأب الحنون العطوف على أبنائه ، بيته بيت الأبناء ، مكتبته مكتبة الأبناء ، فكنا نفد إليه نستطلع رأيه ونستفيد من خبرته ومن تجاربه ، فلم يضنّ على إنسان يوما بأيّ ناحية من تلك النواحي المتعلقة بدراسته ، وعند ما أنشئت الدراسات العليا كان الرائد الأول لنا والموجه لنفعنا ...» (١).
«عند ما عين وكيلا لكلية اللغة العربية ، وكانت الكلية آنذاك في حرب ضروس ومعاناة قوية من الداخل والخارج ، ما كاد يتولى أمرها ويسوس شأنها إلا ورأيناه يقود السفينة بحكمة الربان الماهر الحكيم ، فينهي المآزق القوية ، ويقضي على الفتن التي كادت تقضي على تلك الكلية ، وإن أستاذنا الجليل الدكتور عبد الرزاق السنهوري ، وكان وقتذاك وزيرا للمعارف ، رأى بثاقب فكره أن ذلك الرجل جدير بأن يتولى عمادة الكلية ؛ لتفتح ذهنه وتوقد فكره ، وإمكانه التفاهم مع كل الناس ، ولكنه لم يتمكن من إقناع المسؤولين لما عرف عن فقيدنا الراحل من جرأة في الحق لا ترضي بعض الناس آنذاك ، فانتقل إلى التفتيش ونقل من التفتيش إلى أصول الدين ظنا منهم أن ذلك الرجل الذي كرس حياته في علوم العربية لا يمكن أن يجلّي في أي ميدان آخر ، ولكنه ـ بحمد الله ـ وهو الحصيف الرأي ، القوي البيان ، المتين الحجة ، أمكنه أن يكون رائدا في علوم الدين كما كان رائدا في علوم اللغة ، وأن يكون قويّا بين أساتذته مما
__________________
(١) انظر جريدة «البلاغ» ـ ١٥ ديسمبر ١٩٣٤ م والأعداد التالية حتى أول مايو ١٩٣٥ م.