«ونذكر لك عملنا في هذا الكتاب لتدرك مقدار الجهد المضني الذي بذلناه في إخراجه على هذه الصورة التي نتمنى أن تخرج عليها الكتب العربية ، بل كتب الثقافة الإسلامية عامة ؛ لتنقطع ألسنة الأفاكين الذين يتهمون آباءنا بقلة الإنتاج الصحيح ، وإذا اعترف أحدهم لهم ذكر في جانب اعترافه هذا أن الإنتاج محدود لا أثر فيه لشخصية المنتج ، ولا برهان فيه على الاستقلال والحرية الفكرية ، في الوقت الذي يسطو هو على إنتاجهم وعصارة أذهانهم فينتحلها وينسبها لنفسه ، وهو بمأمن من أن يعرف ذلك سواد الناس ودهماؤهم ؛ لأنهم لا يقرؤون هذه الكتب» (١).
وهو يمدك برؤية تحليلية عن واقع الأمة ، وما تعانيه من عجز عن اللحاق بركب التقدم ، وتبوّء المكانة التي تلائم إمكاناتها والأمانة التي حملت إياها في مقال مجمل وإن كان جامعا ؛ فيقول :
«مضى على الشرق الإسلامي حين من الدهر كان سيف الاستعمار مصلتا فوق رقاب أهله : يرهبهم ويخيفهم ، ويستأثر دونهم بخيرات بلادهم ، ويلفتهم عن السعي المثمر ، ويحول بينهم وبين العمل النافع ، ويحملهم على ما يرضاه لهم من الحياة الرتيبة التي لا جدّ فيها ولا دأب. وكانت شياطين الاستعمار وأذنابه الذين يجلبهم من نفايات الأمم وأراذلها يجوسون خلال ديارهم ويخالطونهم ويتوددون إليهم ، وقد يتملقونهم ، وليس في نفوسهم من الود والملق شيء ، ولكن ليخدعوهم عن أنفسهم وليستجلبوا إقبالهم عليهم واطمئنانهم لهم ، فلا يزالون يختلونهم ويغرّرون بهم حتى إذا رأوا أن قد جازت حيلهم أخذوا يزينون لهم التواكل والخضوع ، ثم أخذوا يزهدونهم في تقاليدهم ومقدساتهم ، ثم أخذوا يشككونهم في معتقداتهم ، ويزعمون لهم أن هذه التقاليد والمقدسات والمعتقدات السبب الأول في تخلفهم وضعفهم ، وتحكّم الأجنبي فيهم ، ثم أخذوا يلوحون لهم بحضارة الغرب وتقدمه وقوته ، فإذا استشرفت أنفسهم لشيء من هذه الحضارة جلبوا لهم منها البهرج الزائف وما يكون سببا قريبا للانحلال والتخاذل ، والاستعمار من ورائهم يغريهم ويشجعهم ويحميهم إن جدّ ما
__________________
(١) من مقدمة كتاب «المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر» السابق.