قلت : نعم يجوز على الوجه الثاني ، وهو ما تأتينا فكيف تحدثنا ، أي : لا يؤذن لهم بالاعتذار فكيف يعتذرون؟ ويمتنع على الوجه الأول ـ وهو ما تأتينا محدثا بل تأتينا غير محدث ـ ألا ترى أن المعنى حينئذ لا يؤذن لهم في حالة اعتذارهم ، بل يؤذن لهم في غير حالة اعتذارهم ، وليس هذا المعنى مرادا.
فإن قلت : فإذا كان النصب في الآية جائزا على الوجه الذي ذكرته ، فما باله لم يقرأ به أحد من القرّاء المشهورين؟
قلت : لوجهين ؛ أحدهما : أن القراءة سنّة متّبعة ، وليس كل ما تجوّزه العربية تجوز القراءة به ، والثاني : أن الرفع هنا بثبوت النون فيحصل بذلك تناسب رؤوس الآي ، والنصب بحذفها فيزول [معه] التناسب.
ومن مجيء النصب بعد النفي قول الله عزوجل : (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا) [فاطر ، ٣٦] والنصب هنا على معنى قولك : ما تأتينا فكيف تحدثنا ، لا على معنى قولك : ما تأتينا محدثا بل غير محدث.
ولو قلت «ما تأتينا إلا فتحدثنا» أو «ما تزال تأتينا فتحدثنا» وجب الرفع ، وذلك لأن النفي في المثال الأول قد انتقض بإلّا ، وفي المثال الثاني هو داخل على زال وزال للنفي ، ونفي النفي إيجاب.
وأما الأمر فكقوله :
١٥٠ ـ يا ناق سيري عنقا فسيحا |
|
إلى سليمان فنستريحا |
وشرطه أمران ؛ أحدهما : أن يكون بصيغة الطلب ؛ فلو قلت «حسبك حديث فينام الناس» ـ بالنصب ـ لم يجز ، خلافا للكسائي ، والثاني : أن لا يكون بلفظ اسم
______________________________________________________
١٥٠ ـ هذا بيت من الرجز ، أو بيتان من مشطوره ، لأبي النجم العجلي ، واسمه الفضل بن قدامة ، وهو من شواهد سيبويه (ج ١ ص ٤٢١) وقد أنشده المؤلف في أوضح المسالك (رقم ٥٠٠) وفي القطر (رقم ١٨) وأنشده أيضا الأشموني في باب إعراب الفعل ، وابن عقيل (رقم ٣٣٤).
اللّغة : «ناق» مرخم ناقة ، «عنقا» بفتح العين والنون جميعا ـ ضرب من السير السريع ، «فسيحا» واسع الخطى ، «سليمان» هو سليمان بن عبد الملك بن مروان ، «فنستريحا» نلقي عنا تعب السفر.