فكما ثبت في الآية الأُولى أنّ «التوفّي» ليس بمعنى الإماتة ، بل بمعنى الأخذ والقبض والاستيفاء حيث قال تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها) ، فهكذا الكلام في الآية الثانية حيث إنّها أشارت إلى أنّ الإنسان في واقعه يتكوّن من قسمين أساسيين ، هما :
الف : البدن والجسم الظاهري ، وهذا هو الذي يضل في التراب بعد الموت ، وهو الذي يتحوّل إلى ذرّات متناثرة هنا وهناك ، بل قد يتحوّل إلى مواد أُخرى أثر التفاعلات الكيمياوية وغيرها من العوامل.
ب : القسم الثاني والذي يمثّل حقيقة الإنسان وبه قوام شخصيته ، والذي عبّر عنه في الآية الكريمة بلفظ «كم» الوارد في قوله : (يَتَوَفَّاكُمْ) ، فهذا هو جوهر شخصية الإنسان وحقيقته ، وانّ الذي يتوفّاه ملك الموت ويأخذه وينتزعه من الجسد ، ليس إلّا الجانب الأصيل الذي به تناط شخصيته وتتقوّم به حقيقته ، وهو محفوظ عند الله تعالى.
وفي الحقيقة انّ الآية المباركة قد أشارت في مقام الجواب إلى برهان علمي وهو : انّ الذي يضل في التراب من الإنسان ـ بسبب الموت ـ هو القشر والبدن ، وأمّا حقيقته وهي الروح الإنسانية التي بها قوام شخصيته ، فلا يطالها الفناء ولا ينالها الاندثار.
وهذا البيان يثبت وبجلاء انّ للإنسان ـ وراء بدنه الذي يفنى ـ واقعاً لا تطرأ عليه آثار المادة من الانعدام والضلال في الأرض أبداً.
إلى هنا وصلنا إلى هذه الحقيقة ، وهي : أنّ الرؤية القرآنية متطابقة مع الحقائق التي أثبتتها البراهين الفلسفية والأدلّة العقلية والعلوم المعاصرة ، والتي تتمثّل في أنّ حقيقة الإنسان وشخصيته تتقوّم في روحه ونفسه ، لا في بدنه المادي.