السبب في نزول الآية ذلك ، وإنّما السبب أنّ الشياطين في ذلك الزمن السحيق كانوا يسترقون السمع من السماء ، ثم يضمون إلى ما سمعوا أكاذيب يلفّقونها ، ويلقونها إلى كهنة اليهود وأحبارهم. وقد دوّنها هؤلاء في كتب يقرءونها ، ويعلّمونها الناس ، وفشا ذلك في زمن سليمان عليهالسلام حتى قالوا : هذا علم سليمان وما تمّ لسليمان ملكه إلّا بهذا العلم ، وبه يسخّر الإنس ، والجن ، والريح التي تجري بأمره. وهذا من افتراءات اليهود على الأنبياء ، فأكذبهم الله بقوله : (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ)(١).
ثم عطف عليه : (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ ...) فالمراد بما أنزل هو «علم السحر» الذي نزلا ليعلّماه الناس ، حتى يحذروا منه ، فالسبب في نزولهما هو تعليم الناس أبوابا من السحر ، حتى يعلم الناس الفرق بين السحر والنبوة ، وأن سليمان لم يكن ساحرا ، وإنما كان نبيّا مرسلا من ربّه. وقد احتاط الملكان غاية الاحتياط ، فما كان يعلّمان أحدا شيئا من السحر حتى يحذّراه ، ويقولا له : (إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ) أي بلاء واختبار ، فلا تكفر بتعلّمه والعمل به. وأما من تعلّمه للحذر منه ، وليعلم الفرق بينه وبين النبوّة والمعجزة ؛ فهذا لا شيء فيه ، بل هو أمر مطلوب ، مرغوب فيه ، إذا دعت الضرورة إليه. ولكن الناس ما كانوا يأخذون بالنصيحة ، بل كانوا يفرّقون به بين المرء وزوجته ، وذلك بإذن الله ومشيئته.
وقد دلت الآية على أن تعلّم السحر لتحذير الناس من الوقوع فيه والعمل به مباح ، ولا إثم فيه ، وأيضا تعلّمه لإزالة الاشتباه بينه وبين المعجزة والنبوة مباح ، ولا إثم فيه. وإنّما الحرام والإثم في تعلّمه أو تعليمه للعمل به ، فهو مثل ما قيل :
عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه |
|
ومن لا يعرف الشر من الناس يقع فيه |
__________________
(١) لأن تعلم السحر للعمل به كفر.