مكّة والطائف (عَظِيمٍ) بالجاه والمال ، كالوليد بن المغيرة المخزومي من مكّة ، وعروة بن مسعود الثقفي ، وحبيب بن عمرو بن عمير الثقفي ، وعتبة بن أبي ربيعة من مكّة ، وكنانة بن عبد ياليل من الطائف. وكان الوليد يقول : لو كان حقّا ما يقول محمّد لنزل هذا القرآن عليّ أو على أبي مسعود الثقفي ، فإنّ الرسالة منصب عظيم لا يليق إلّا بعظيم. ولم يعلموا أنّها رتبة روحانيّة تستدعي عظم النفس بالتحلّي بالفضائل والكمالات القدسيّة ، لا التزخرف بالزخارف الدنيويّة.
فردّ الله سبحانه ذلك عليهم ، فقال إنكارا وتجهيلا وتعجيبا من تحكّمهم : (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ) أي : النبوّة (نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) وهم عاجزون عن تدبيرها ، وهي خويصّة (١) أمرهم وما يصلحهم في دنياهم ، ولو وكلهم إلى أنفسهم وولّاهم تدبير أمرهم لضاعوا وهلكوا. فإذا كانوا في تدبير أمر المعيشة الدنيّة في الحياة الدنيا على هذه الصفة ، فما ظنّك بهم في أن يدبّروا أمر النبوّة الّتي هي أعلى المراتب الإنسيّة ، ورحمة الله الكبرى ، ورأفته العظمى ، وما يتبعها من الفوز والفلاح في دار السلام.
إن قيل : المراد بالمعيشة ما يعيشون به من المنافع ، فمنهم من يعيش بالحلال ، ومنهم من يعيش بالحرام ، فإذن قد قسّم الله الحرام كما قسّم الحلال.
فأجيب بأن الله قسّم لكلّ عبد معيشته ، وهي مطاعمه ومشاربه وما يصلحه من المنافع ، وأذن له في تناولها ، ولكن كلّفه أن يسلك في تناولها الطريق الّتي شرعها ، فإذا سلكها فقد تناول قسمته من المعيشة حلالا ، وسمّاها رزق الله ، وإذا لم يسلكها تناولها حراما ، وليس له أن يسمّيها رزق الله. فالله تعالى قاسم المعايش والمنافع ، ولكنّ العباد يكسبونها صفة الحرام بسوء تناولهم ، وهو عدولهم عمّا شرعه الله إلى ما لم يشرعه.
__________________
(١) أي : الّذين يختصّ بهم. وهي تصغير خاصّة.