وهذا معترض بأن الاستقراء دلّ على أن اعتبار اللفظ أكثر من اعتبار المعنى ، وكثرة موارده تدل على قوله ؛ وأما العود إلى اللفظ بعد اعتبار المعنى فقد ورد به (١) التنزيل ، كما ورد باعتبار المعنى بعد اعتبار اللفظ ، فثبت أنه يجوز الحمل على كل واحد منهما ، بعد الآخر من غير ضعف.
وأما قوله تعالى : (وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً [نُؤْتِها]) (٢) (الأحزاب : ٣١) فقرأه الجماعة بتذكير «يقنت» حملا على لفظ «من» في التذكير «وتعمل» بالتأنيث ، حملا على معناها ؛ لأنها للمؤنث. وقرأ حمزة والكسائي «يعمل» (٣) بالتذكير فيهما حملا على لفظها رعاية للمناسبة في المتعاطفين. وتوجيه الجماعة أنّه لما تقدم على الثاني صريح التأنيث في «منكنّ» حسن الحمل على المعنى.
وقال أبو الفتح في «المحتسب» (٤) : لا يجوز مراجعة اللفظ بعد انصرافه عنه إلى المعنى. وقد يورد عليه قوله : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ* وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) (الزخرف : ٣٦ ـ ٣٧) ثم قال : (حَتَّى إِذا جاءَنا) (الزخرف : ٣٨) ، فقد راجع (٥) اللفظ بعد الانصراف عنه إلى المعنى ؛ إلا أن يقال : إن الضمير في «جاء» يرجع إلى الكافر لدلالة السياق عليه ؛ لا إلى «من».
ومنه الفرق بين «أسقى» و «سقى» بغير همز ؛ لما [لا] (٦) كلفة معه في السقيا ؛ ومنه قوله تعالى : (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً) (الدهر : ٢١) فأخبر أن السقيا في الآخرة لا يقع فيها كلفة ، بل جميع ما يقع فيها من الملاذّ يقع فرصة وعفوا ، بخلاف «أسقى» بالهمزة ،
__________________
(١) في المخطوطة (بها).
(٢) ليست في المطبوعة.
(٣) قال البنا في إتحاف فضلاء البشر ص ٣٥٥ عند سورة الأحزاب : (واختلف في ويعمل صالحا نؤتها فحمزة والكسائي وخلف بياء التذكير فيهما ، على إسناد الأول إلى لفظ «من» ، والثاني لضمير الجلالة لتقدمها ووافقهم الأعمش ؛ والباقون بتاء التأنيث في «يعمل» على إسناده لمعنى «من» وهن النساء).
(٤) انظر «المحتسب» لابن جني ٢ / ١٧٩ عند سورة الأحزاب ، ولكن نص هذه العبارة أقرب ما يكون من عبارة «الخصائص» له ٢ / ٤٢٠ فصل في الحمل على المعنى ، وقد تقدم التعريف «بالمحتسب» في ١ / ٤٨١.
(٥) في المخطوطة (فراجع).
(٦) ليست في المخطوطة.