هذا التمايز في القيمة الروحية؟ وهل هو موقع يتميز به البعض عن غيرهم بشكل مطلق؟ أم هي مسألة الواقع الخاضع للأسباب الطبيعية بعيدا عن الامتياز الذاتي أو الطبقي عند الله ، وعند الناس؟
الظاهر ، أن هذا التمايز يعود إلى الواقع التنظيمي للحياة الإنسانية الذي يستدعي توزيع الأرزاق ، وتنويع الطاقات ، واختلاف الحاجات ، وتعدّد المواهب ، فلم يجعل الله لأيّة حالة طبقيّة أو فئوية ميزة بحسب ميزان القيمة عنده أو في حركة التشريع ، بالمعنى التسلّطي المفروض على الناس .. وهذا ما أشارت إليه الفقرة التالية في الآية : (لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا) أي ليسخّر كل واحد من الناس في حاجاته من يملك أمر تلبيتها بحسب ما لديه من مال وجهد وموقع .. وهذه سنّة طبيعية في الكون ، فإن أحدا ليس مستغنيا عن أحد ، وكل شخص مسخر للآخر ، بحيث تصبح الحاجة التي تفرض التسخير أمرا نسبيا ، لا مطلقا .. وقد أثبتت التجربة الإنسانية أن تساوي الجميع على صعيد واحد ، ليس أمرا واقعا ، فإن طبيعة الحياة تفرض التنوّع في كل شيء حتى في عالم الحيوان والنبات والجماد ، كما تفرض تبادل الخدمات واستخدام بعض الناس لبعضهم الآخر .. مما يجعل القيمة المشتركة ، في عمق الأمور ، شاملة للناس جميعا ، ولذلك فقد لا يكون من الطبيعي الحديث في مجال التقنين والتنظيم عن مساواة مطلقة بين الناس ، بل المفروض هو الحديث عن المساواة في الحقوق وتوفير الفرص للجميع ، بحيث لا يفضل شخص على آخر إلا من خلال كفاءته ودوره المميّز في ما يقدمه للحياة وللناس ، لتتحرك المساواة في دائرة التنوّع ، لا في دائرة إلغاء الخصوصيات .. وتبقى قضية التمايز والمساواة محكومة لمدى التطلع إلى القيمة الكبيرة عند الله ، وذلك في آفاق رحمته التي هي سرّ وجود الإنسان من حيث المبدأ والتفاصيل ، لأنها رحمة لا تقتصر على ساحة الدنيا ، بل تمتدّ إلى ساحة الآخرة ، ولا تؤمّن حاجات الإنسان المادية فقط ، بل تتسع لحاجاته الروحية ..