والحال أنّ الوساطة والشفاعة في الحياة الدنيا تختلف مع ذلك اختلافاً أساسياً ، وذلك لأنّ المذنب والمجرم هو الذي يتصدى لاختيار وانتخاب الشفيع والواسطة ، ولو لم يتحرّك المجرم ويسعى لانتخاب الواسطة والشفيع لما خطر في بال الشفيع أن يتوسّط أو يشفع له عند خصومه ، فإذا ما دعا القرآن الكريم المذنبين في هذه الدنيا بقوله : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) (١) ، فلا ريب أنّ هذا الأمر والدستور الإلهي صدر منه سبحانه بصورة مباشرة ، ولو لا أن يأذن هو بذلك لما توجّه المسلمون نحو الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وطلبوا منه الاستغفار والتوبة ، وعلى فرض أنّهم ذهبوا إليه صلىاللهعليهوآلهوسلم وطلبوا منه ذلك ، لا شكّ أنّه لا أثر لذلك الذهاب ولتلك الدعوة ما دام الله سبحانه وتعالى لم يأمر بها أو يأذن باستعمالها. وهكذا الكلام في الشفاعة في الدار الآخرة.
٢. في الشفاعة الصحيحة يكون الشفيع خاضعاً للأمر الإلهي وواقعاً تحت تأثير المقام الربوبي ، وأمّا في الشفاعة الباطلة يكون صاحب القدرة والمقام الحكومي مثلاً واقعاً تحت تأثير كلام وإرادة الشفيع ، كما أنّ الشفيع نفسه هو الآخر واقع تحت تأثير وإلحاح وإصرار المجرم ، ومن الواضح أنّ هذا فرق أساسي بين الشفاعتين لا يمكن التغافل عنه.
٣. في الشفاعة الدنيوية يحدث تمييز في القانون بحيث يستطيع الشفيع أن يتغلب على إرادة المقنّن أو المنفذ للقانون ، وبالنتيجة تنحصر سلطة المقنن وقدرته على الضعفاء والفقراء والعاجزين فقط ، ممّن لا حول لهم ولا قوّة ، والحال أنّ الأمر في الشفاعة الأُخروية يختلف عن ذلك اختلافاً جوهرياً فلا يوجد أحد
__________________
(١) النساء : ٦٤.