الثانية : قوله : (أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) (١) ومعلوم أنّه (٢) لم تنزل من السماء ، وكذا (أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) (٣) الثالثة : قوله : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)(٤) (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ
__________________
ـ النور إلى الله تعالى مسلك لا يخلو عن دقة.
وبيانه : أنّ من الضروري أنّ الموجودات بأسرها لما كانت ممكنة لذواتها ، والممكن لذاته يستحقّ العدم من ذاته والوجود من غيره ، والعدم هو الظلمة الحاصلة والوجود هو النور ، فكلّ ما سوى الله تعالى مظلم لذاته مستنير بإنارة الله تعالى ، وكذا جميع معارفها بعد وجودها حاصل من وجود الله تعالى ، فالحق سبحانه هو الذي أظهرها بالوجود بعد أن كانت في ظلمات العدم وأفاض عليها أنوار المعارف بعد أن كانت في ظلمات الجهالة ، فلا ظهور لشيء من الأشياء إلّا بإظهاره ، وخاصية النور إعطاء الإظهار والتجلّي والانكشاف ، فإنّه ظاهر بذاته مظهر لغيره.
وعند هذا يظهر أنّ النور المطلق هو الله سبحانه وأنّ إطلاق النور على غيره مجاز ، إذ كلّ ما سواه فإنّه من حيث هو هو ظلمة محضة ، لأنّه من حيث إنّه هو هو عدم محض ، بل الأنوار إذا نظرنا إليها من حيث هي هي فهي ظلمات ، لأنّها من حيث هي هي ممكنات ، والممكن من حيث هو هو معلوم والمعدوم مظلم ، وأمّا إذا التفت إليها من حيث إنّ الحقّ سبحانه أفاض عليها نور الوجود. فبهذا الاعتبار صارت أنوارا فثبت أنّه سبحانه هو النور وأنّ كلّ ما سواه فليس بنور إلّا على سبيل المجاز ، ولقد فسّر النور بهذا المعنى غير واحد من أهل التحقيق.
(١) الزمر ٣٩ : ٦. يعني من الأنعام : الإبل والبقر والضأن والمعز ، وكونها ثمانية أزواج باعتبار انقسامها إلى الذكر والأنثى ، فإنّ من كل صنف اثنان وهما زوجان.
(٢) أنّها ـ خ : ـ (آ).
(٣) الحديد ٥٧ : ٢٥. يعني لا بدّ من فهم معنى النزول هنا فنقول : يقال : أنزل الله الشيء من نعمه أو نقمه : خلقه أو هدى إليه. وذلك أنّ هذه الأشياء ترجع إلى أسباب سماوية كالمطر وأشعّة الكواكب ، أو أنّها مقضية مكتوبة في اللوح المحفوظ وتنزّل الملائكة الموكّلة بإظهارها في العالم السفلي فينسب الإنزال بذلك إليها ، ومن ذلك إنزال الأنعام وإنزال الحديد وإنزال اللباس هداية الناس إليه مع أنّ أسبابه من السماء ، فهو من القطن ونحوه ، وهو يفتقر إلى المطر وإنزال الميزان هداية الناس إليه أو الأمر به في الكتب المنزلة قوله تعالى : (يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً) الأعراف ـ ٢٦ ـ أي خلقنا ، وعبّر عنه بالإنزال ، لأنّه بتدبيرات سماوية ، أو يرجع إلى النبات الناشئ عن المطر. فقوله تعالى : (أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) أي خلقنا الحديد ، انظر معجم ألفاظ القرآن الكريم ج ٢ ، ص ٧٠٣ ـ ٧٠٤ الطبعة الثانية مصر.
(٤) ق ٥٠ : ١٦.