أم ترك الإنذار ؛ لأنهم كانوا لا يؤمنون ، وقد ختمت على قلوبهم وسمعهم. ومن ذلك قول عبد الله بن قيس الرقيات :
تعذّبني الشهباء نحو ابن جعفر |
|
سواء عليها ليلها ونهارها |
يعني بذلك : معتدل عندها في السير الليل والنهار ؛ لأنه لا فتور فيه.
ومنه قول الآخر :
وليل يقول المرء من ظلماته |
|
سواء صحيحات العيون وعورها |
لأنّ الصحيح لا يبصر فيه إلّا بصرا ضعيفا من ظلمته.
وأما قوله : (أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) فإنّه ظهر به الكلام ظهور الاستفهام ، وهو خبر ؛ لأنّه وقع موقع «أيّ» ، كما تقول : لا نبالي أقمت أم قعدت ، وأنت مخبر لا مستفهم ، لوقوع ذلك موقع «أيّ» ؛ وذلك أنّ معناه ـ إذا قلت ذلك ـ :
ما نبالي أيّ هذين كان منك ، فكذلك ذلك في قوله : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) لما كان معنى الكلام : سواء عليهم أيّ هذين كان منك إليهم ، حسن في موضعه مع سواء أفعلت أم لم تفعل. وقد كان بعض نحويّي أهل البصرة يزعم أنّ حرف الاستفهام إنّما دخل مع «سواء» وليس باستفهام ؛ لأنّ المستفهم إذا استفهم غيره فقال : أزيد عندك أم عمرو ، مستثبت صاحبه أيّهما عنده ، فليس أحدهما أحقّ بالاستفهام من الآخر ، فلما كان قوله : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) بمعنى التسوية ، أشبه ذلك الاستفهام ، إذ أشبهه في التسوية ، وقد بيّنّا الصواب في ذلك.
فتأويل الكلام : إذا معتدل يا محمد على هؤلاء الذين جحدوا نبوّتك من أحبار يهود المدينة ، بعد علمهم بها ، وكتموا بيان أمرك للناس بأنّك رسولي إلى خلقي ، وقد أخذت عليهم العهد والميثاق أن لا يكتموا ذلك وأن يبيّنوه للناس ، ويخبروهم أنهم يجدون صفتك في كتبهم ، أأنذرتهم أم لم تنذرهم فإنّهم