مع الجوّ الحاكم أجبر على الانسجام مع الوضع الراهن.
ومن ثمّ نراه ـ عند ما يذكر دلائل أصحاب الاعتزال ـ نراه يذكرها بقوّة ودقّة وإحاطة وتفصيل ، بما لا يدع مجالا في إمكان قبول تلكم الوجوه الأشعرية.
ذكر دلائل أهل الاعتزال في ثلاث مقامات ، أوّلا : عدم المانع من الإيمان والكفر ، وثانيا : أن العلم لا يوجب منعا في العمل ، الثالث : نقض تلكم الوجوه الخمسة. ذكرهن بإسهاب وتفصيل ، نقتطف منها ما يلي :
قال : وأنا أذكر أقصى ما ذكره أصحاب الاعتزال بعونه تعالى وتوفيقه. وذكر وجوها خمسة ، في المقام الأول ؛ وخلاصتها : أن القرآن مملوء من الآيات الدالّة على أنه لا مانع لأحد من الإيمان ، قال تعالى : (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى)(١) ، و (ما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا)(٢) ، (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)(٣) قال الصاحب ابن عباد : كيف يأمر العبد بالإيمان وقد منعه عنه؟! وينهاه عن الكفر وقد حمله عليه؟! وأيضا فإنّ الله تعالى قال : (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ)(٤) ، وقال : (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى)(٥).
فلما بيّن تعالى أنه ما أبقى لهم عذرا إلّا وقد أزاله عنهم ، فلو كان علمه بكفرهم وخبره عن كفرهم مانعا لهم عن الإيمان ، لكان ذلك من أعظم الأعذار ،
__________________
(١) الإسراء / ٩٤.
(٢) النساء / ٣٩.
(٣) الانشقاق / ٢٠.
(٤) النساء / ١٦٥.
(٥) طه / ١٣٤.