الرازي ترك وهن تلك الوجوه وقوّة هذه الدلائل بمعرض القارئ ومسمعه ، ليحكم هو حسب ذهنيّته الفطريّة الحاكمة بأنّ العبد مختار في فعله. والله تعالى لا يكلّف بما لا يستطاع ، الأمر الذي يجعل من دلائل أهل الاعتزال هي الكفّة الراجحة ، وهذا شيء فعله الإمام الرازي ، عن حسن نية وعن عمد فعله ـ حسب الظاهر ـ إذ الظاهر أنه ليسيء الظن بمذاهب أصحابه الأشعريين.
ومما يدلك على ذلك ، أنه لم يطعن في دلائل أهل الاعتزال ، وذكرها تامة وافية ، كما هي عادته في كل أمر يعتقده صحيحا.
ثم إنه بعد إيراد دلائل الطرفين ، أورد شبهاته في المسألة وذكر مقالات تشكيكيّة ، وأسندها إلى أهل التشكيك ، ممن فرضهم أهل العناد في مسائل الكلام.
قال : واعلم أنّ هذا البحث صار منشأ لضلالات عظيمة ، فمنها : أنّ منكري التكاليف والنبوّات قالوا : قد سمعنا كلام أهل الجبر ـ يعنى بهم الأشاعرة ـ فوجدناه قويّا قاطعا. وهذان الجوابان اللذان ذكرهما المعتزلة يجريان مجرى الخرافة ، ولا يلتفت العاقل إليهما! وسمعنا كلام المعتزلة في أنّ مع الجبر يقبح التكليف ، والجواب الذي ذكره أهل الجبر ضعيف جدا ، فصار مجموع الكلامين كلاما قويّا في نفي التكاليف ، ومتى بطل ذلك بطل القول بالنبوّات.
هكذا يلقي التشكيك ، عند عرض الآراء ، سواء المخالف أم المؤالف.
ثم يذكر مطاعن أخر وجّهها الطاعنون في القرآن وفي الإسلام ، على أثر هذه المناظرة بين أهل الجبر والقدر ، ويستنتج : أنّ الرجوع إلى العقليّات يورث الكفر والضلال ، ولهذا قيل : من تعمّق في الكلام تزندق.
ثم يذهب في تشكيكاته حيث يشاء ، ويذكر في أثنائها حكاية طريفة يرويها