كان المؤمن بالغيب يرى للأرواح وجودا لا يدرك كنهه ، والذي لا يؤمن بالغيب يقول لا أعرف الروح ، ولكن أعرف قوّة لا أفهم حقيقتها ، ولا يعلم إلّا الله ، على م يختلف الناس ، وكل يقرّ بوجود شيء غير ما يرى ويحسّ ، ويعترف بأنه لا يفهمه حقّ الفهم ، ولا يصل بعقله إلى إدراك كنهه؟ وما ذا على هذا الذي يزعم أنه لا يؤمن بالغيب ـ وقد اعترف بما غيب عنه ـ لو قال : أصدق بغيب أعرف أثره ، وإن كنت لا أقدر قدره ، فيتّفق مع المؤمنين بالغيب ، ويفهم بذلك ما يرد على لسان صاحب الوحي ، ويحظى بما يحظى به المؤمنون؟
«يشعر كل من فكّر في نفسه ، ووازن بين خواطره ، عند ما يهمّ بأمر فيه وجه للحقّ أو للخير ، ووجه للباطل أو للشر ، بأنّ في نفسه تنازعا ، كأنّ الأمر قد عرض فيها على مجلس شورى ، فهذا يورد وذاك يدفع ، وأحد يقول : افعل ، وآخر يقول : لا تفعل ، حتى ينتصر أحد الطرفين ، ويترجّح أحد الخاطرين ، فهذا الشيء الذي أودع في أنفسنا ونسمّيه : قوّة وفكرا ، وهي في الحقيقة معنى لا يدرك كنهه ، وروح لا تكتنه حقيقتها ، لا يبعد أن يسمّيه الله ملكا ، أو يسمّى أسبابه ملائكة ، أو ما شاء من الأسماء ، فإنّ التسمية لا حجر فيها على الناس ، فكيف يحجر فيها على صاحب الإرادة المطلقة ، والسلطان النافذ والعلم الواسع!
قال : «فإذا صحّ الجري على هذا التفسير ، فلا يستبعد أن تكون الإشارة في الآية إلى أنّ الله تعالى لما خلق الأرض ودبّرها بما شاء من القوى الروحانية التي بها قوامها ونظامها ، وجعل كل صنف من القوى مخصوصا بنوع من أنواع المخلوقات ، لا يتعدّاه ولا يتعدى ما حدّد له من الأثر الذي خصّ به ، خلق بعد ذلك الإنسان ، وأعطاه قوّة يكون بها مستعدّا للتصرف بجميع هذه القوى ، وتسخيرها في عمارة الأرض ، وعبّر عن تسخير هذه القوى له بالسجود ، الذي يفيد معنى الخضوع والتسخير ، وجعله بهذا الاستعداد الذي لا حدّ له ، والتصرف الذي