بعض المقاتل انه حمل القربة باسنانه وجعل يركض ليوصل الماء إلى عطاشى أهل البيت ، غير حافل بما كان يعانيه من نزف الدماء وألم الجروح وشدة الظمأ .. لقد كان ذلك منتهى ما وصلت إليه الانسانية في جميع ادوارها من الوفاء والرحمة والحنان.
وبينما هو يركض وهو بتلك الحالة اذ أصاب القربة سهم غادر فاريق ماؤها ، ووقف البطل الشهم حزينا ، فقد كان اراقة الماء عنده أشد عليه من ضرب السيوف وطعن الرماح ، وشد عليه رجس فعلاه بعمود من حديد على رأسه الشريف ففلق هامته ، وهوى الى الأرض وهو يؤدي تحيته ووداعه الأخير إلى أخيه قائلا.
«عليك مني السلام أبا عبد اللّه» (١)
وحمل الأثير كلماته إلى أخيه فخرقت قلبه ومزقت احشاءه ، وانطلق وهو خائر القوى منهد الركن فاقتحم بجواده جيوش الأعداء ، ووقف على الجثمان المقدس وهو يعاني آلام الاحتضار والقى بنفسه عليه فجعل يشمه ويضمخه بدموع عينيه وهو يلفظ شظايا قلبه الذي مزقته الكوارث قائلا :
«الآن انكسر ظهري ، وقلت حيلتي»
وجعل الامام يطيل النظر إلى جثمان أخيه وهو يذكر اخوته الصادقة ووفاءه النادر وشهامته الفذة .. وتبددت جميع آماله ، وكان مما يهون عليه اهوال هذه الكارثة سرعة اللحاق به ، وعدم بقائه بعده الا لحاظات ، ولكنها كانت عنده كالسنين فقد ودّ أن المنية قد وافته قبله.
وقام الثاكل الحزين وقد انهارت قواه ، وهو لا يتمكن ان يقل قدميه ، وقد بان عليه الانكسار والحزن ، واتجه صوب المخيم وهو يكفكف دموعه ، فاستقبلته سكينة قائلة :
__________________
(١) مقتل الحسين للمقرم (ص ٢٢٦)