.................................................................................................
______________________________________________________
وليس وجود أحدهما مقدمة لترك الآخر ، كما أنّ ترك الآخر ليس مقدمة لوجود الأول ، على ما هو الحال في جميع الأُمور المتضادة ، لا سيما إذا كان التضاد غير منحصر بفردين بل كان لهما ضد ثالث كما هو الحال في المقام. فإنّ التضاد بين غضّ البصر بمعناه الحقيقي أعني وضع جفن على جفن وإطباق الجفنين وبين النظر غير منحصر بينهما ، إذ للإنسان أن يضع حائلاً بين عينيه وبين الشيء المنظور إليه فلا يراه من دون أن يطبق جفنيه.
ومن هنا يتضح أنّه لا وجه لما قيل : من أن غضّ البصر مقدمة لترك النظر ، وحيث أنّ الأمر بالمقدمة أبلغ من الأمر بذيها كان المراد بالأمر بغضّ البصر ترك ضده الآخر ، فإنّ ذلك من الاستعمال الغريب ، ولم نعثر بحسب تتبعنا على مورد لذلك ، بل لا معنى له بحسب الاستعمالات المتعارفة لا سيما إذا لم يكن التضادّ منحصراً بفردين.
وقد يتوهّم أنّ ذلك مستعمل فيما ورد من أنّ الناس يؤمرون يوم القيامة بغضّ أبصارهم كي تجوز فاطمة (عليها السلام) بنت حبيب الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) (١) بدعوى أنّ المراد من ذلك حقيقة إنما هو ترك النظر إليها.
وفيه : أنّ الظاهر من تلك الأوامر أنّ هذه الكلمة مستعملة في معناها الحقيقي أعني إطباق الجفون وجعل الإنسان نفسه كالأعمى إجلالاً وتعظيماً لمقامها (عليها السلام) ، لا ترك النظر إليها.
وعلى ضوء هذا فحيث أنّ المراد بالغضّ في الآية الكريمة ليس معناه الحقيقي يقيناً إذ لا يجب على الرجل أن يطبق جفنه كما لا يجب على المرأة أن تطبق جفنها جزماً وإرادة ترك النظر منها باعتبار أنّه ملازم له عناية يحتاج إلى الدليل وهو مفقود ، بل هو استعمال غريب لم يعثر عليه مطلقاً ، تعيّن أن يكون المراد به صرف النظر عن غير الزوجة والمملوكة ، وفرضها كالعدم ، وهو استعمال شائع عرفاً.
وتساعد عليه الآية الكريمة ، فإنّ كلمة «مِنْ» المذكورة فيها لا تنسجم إلّا مع هذا التفسير ، فإنّها تفيد التبعيض وهو إنما ينسجم مع تفسيرنا ، فيقال : إنّ المأمور به
__________________
(١) تفسير فرات الكوفي : ٤٣٧ ٤٣٨ ح ٥٧٨.