الاجتماعية التي يلتزم بها الشيوخ في تقاليدهم وأوضاعهم وعلاقاتهم الاجتماعية!؟ إن هذا هو السجن بعينه. إننا نريد منك أن تحرّره من ذلك كله ، وأن تثق بنا كما يثق الأب بأولاده الذين عاشوا معه الحب كله ، والإخلاص كله ، ولا تخف عليه من أي سوء فإنا سنحميه بما نحمي به أنفسنا ، (وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) من كل عدوان بشريّ أو حيوانيّ.
ولكن أباهم صرف الحديث إلى جانب آخر ، فلم يؤكد اتهامه لهم بالعداوة له ، بل أثار أمامهم مسألة أخرى ، وهي خوفه عليه من الذئب الذي قد يفترسه عند غفلة إخوته عنه في لهوهم ولعبهم ، (قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ) لأن طبيعة أجواء اللهو واللعب ، توحي بالغفلة عن كثير من الأشياء المهمّة ، للحالة المحمومة التي تتحكم بالأعصاب وبالمواقف. وجاء في بعض الروايات أنّ يعقوب كان يريد أن يلقّنهم الحجة في ما يعتذرون به بعد تنفيذ خطتهم ، في ما أخبره الله به ، الأمر الذي لم يكن واردا عندهم في تفكيرهم حول الموضوع ، والذي لم يثبت عندنا ، وإن كان ممكنا ، وقد أجابوا أباهم بأن هذا الخوف لا مجال له أمام عددهم الكبير ، فإذا غفل عنه واحد أو أكثر منهم ، فكيف يغفل عنه الآخرون؟
وكانت المسألة تمثّل التحدي الكبير لهم في إطار ما يريدون الحصول عليه من ثقة أبيهم حيال أغلى الأشياء عنده ، ومن ثقة الناس بهم في حفظ الأمانة الأخوية والإخلاص لها ، والاهتمام بها في أعلى درجات الاهتمام (قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ) في العدد والقوة ، (إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ) وأي خسارة أعظم من خسارة الإنسان ثقة الناس به ، في أكثر الأشياء اتّصالا بالجانب الحميم من حياته ، وهذا ما أراد أن يؤكده في موقفهم الاستعراضي الذي يحاولون من خلاله الإيحاء لأبيهم بأنهم في مستوى المسؤولية وفي أعلى درجات الوعي واليقظة والقوة والإخلاص ، لأن المسألة تمثل حالة متّصلة بالذات ، في تقييمهم الشخصي والروحي.