أمام العقيدة الراسخة ، والقرار الحازم المنطلق من حساب دقيق لموقفه من الله لو أطاع إحساسه ، وهذا ما عبّر عنه قوله تعالى : (لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) في ما تعنيه كلمة البرهان من الحجة في الفكرة التي توضح الرؤية ، وتكشف حقيقة الأمر ، فيحسّ ، بعمق الإيمان ، أنه لا يملك أيّة حجة في ما يمكن أن يقدم عليه ، بل الحجة كلها لله ، وربما كان جوّ هذه الآية هو جوّ قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) [الأعراف : ٢٠١]. وقد نستوحي ذلك من مقابلة كلمة (وَهَمَّ بِها) لكلمة : (بَلَغَ أَشُدَّهُ) فقد اندفعت إليه بكل قوّة وضراوة واشتهاء ، فحركت فيه قابلية الاندفاع ، وكاد أن يندفع إليها لو لا يقظة الحقيقة في روحه ، وانطلاقة الإيمان في قلبه ، وبذلك كان الموقف اليوسفيّ ، انجذابا وتماسكا وتراجعا مستوحى من الكلمة ومن الجوّ الذي يوحي به السياق معا (١).
* * *
__________________
(١) والحقيقة أن ما ذهبنا إليه هنا من تفسير لقوله تعالى : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ ..) ليس مما نتفرد به ، إذ ذهب اليه شيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي في تبيانه. فقد ذكر ـ رضوان الله عليه ـ من معاني الهم : «الشهوة وميل الطباع ، يقول القائل في ما يشتهيه ويميل طبعه ونفسه إليه : هذا من همي ، وهذا أهم الأشياء إليّ. وروي هذا التأويل في الآية عن الحسن ، وقال : أما همها ، وكان أخبث الهم وأما همه ، فما طبع عليه الرجال من شهوة النساء ، وإذا احتمل الهم ، هذه الوجوه ، نفينا عنه (ع) العزم على القبيح ، وأجزنا باقي الوجوه لأن كل واحد منها يليق بحاله ...». (الطوسي ، أبو جعفر ، محمد بن الحسن ، التبيان في تفسير القرآن ، دار إحياء التراث العربي ـ بيروت ، ج : ٦ ، ص : ١٢١). والأمر عينه ذهب إليه أيضا السيد المرتضى (ره) في كتابه «تنزيه الأنبياء» ، وذلك في معرض تعليقه على المعاني المتعددة لكلمة «الهم» ، قائلا : «فإذا كانت وجوه هذه اللفظة» (أي الهم) مختلفة متسعة على ما ذكرناه ، نفينا عن النبي ما لا يليق به وهو العزم على القبيح ، وأجزنا باقي الوجوه ، لأن كل واحد منها يليق بحاله (راجع تنزيه الأنبياء ص : ٧٣ ، ٧٥).