فرعون يلملم ثقة قومه به
وانتهى هذا الفصل من القصة ، لنطلّ على فصل آخر لنشاهد فرعون وهو ينادي قومه طالبا ـ من جديد ـ الثقة بموقعه ومركزه ، بعد أن اهتزت صورته في نفوسهم ، أو هكذا خيّل إليه (وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ) وأطلق صوته في أوساطهم (قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) أي من تحت قصري أو بستاني (أَفَلا تُبْصِرُونَ) كل ذلك لتملئوا عيونكم منه ، ولتستلهموا جانب العظمة فيه وترجعوا إليّ وإلى الخضوع لربوبيتي .. فهل عندكم أيّ شك في ذلك (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ) حقير في نسبه وفي ماله وفي شكله (وَلا يَكادُ يُبِينُ) في نطقه ، فما الذي يملك من جوانب العظمة حتى تهتموا به أو تلتفتوا إليه ..
(فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ) ليمنحه الذهب رونقا وبهاء وزينة وعظمة ، في ما كان الناس يعتادونه أنهم إذا سوّدوا رجلا سوّروه بسوار من ذهب وطوّقوه بطوق من ذهب (أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ) به ، ليشهدوا على صدقه في رسالته ، لأنّ ذلك هو ـ وحده ـ الذي يؤكد زعمه .. وكان ذلك المنطق قريبا إلى ذهنية قومه ، التي كانت تركز على المقومات الخارجية للشخصية في ما يملكه من مال وجاه وقوّة ، لا في ما يملكه من كفاءات فكرية وروحية وعمليّة ، ولذلك انفعلوا بالمقارنة التي عقدها فرعون بينه وبين موسى (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ) أي استفزهم بأسلوبه القريب من سطح عقولهم فحملهم على أن يخفّوا له ولما أراد منهم (فَأَطاعُوهُ) بالانصياع لخطّته في مواجهة موسى ، (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) لا يملكون الأساس القويّ الذي يركّز أقدامهم على الخط المستقيم في التوازن العملي في ما يفعلونه أو في ما يتركونه ، لأنهم ليسوا بأصحاب فكر يضبط لهم مواقفهم ويحدّد لهم مواقعهم ، بل هم أصحاب أهواء ومطامع تحرّكهم ذات اليمين وذات الشمال.
* * *