فكيف يقوّمون أنفسهم ، ذاتيا وطبقيا ، فهم ليسوا بأعظم من قوم تبّع ، وهو أحد ملوك حمير باليمن ، فقد (أَهْلَكْناهُمْ) لما كفروا وتمردوا (إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) فعاقبناهم على جريمة الكفر والعناد.
وقد ورد عن تبّع أنه كان من المرسلين المؤمنين ، وقيل إنه قال للأوس والخزرج : كونوا هاهنا حتى يخرج هذا النبي ، أمّا أنا لو أدركته لخدمته وخرجت معه (١).
* * *
(وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ)
(وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) فليس هناك أيّ عبث في طبيعة الخلق وفي مفرداته وتفاصيله ، فلكل واحد من خلقه سرّ في عمقه وفي حركته وفي هدفه ، لأن الله لا يلعب ولا يعبث ، والعبث بالنسبة له محال ، لأن العبث ينطلق من حالة فراغ أو ملل يبحث صاحبها عما يملأه فيها ، أو يجدد حيويته ، وهو أمر لا معنى له في ذات الله التي تمثّل الكمال المطلق الذي لا يحتاج إلى شيء ، ولا يعرض عليه الضعف الذاتي (ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِ) والحق يمثل الغاية المشتملة على الحكمة في تحقيق التوازن بين الأشياء ، بحيث تضع كل شيء في موضعه وتجعل له هدفا يحرّكه في الاتجاه الصحيح ، وهذا ما يدركه العقل الواعي وتقود إليه التجربة العملية التي تلاحق الظواهر الكونية وحركة الحياة والإنسان ، حيث تمثل السنن الكونية والحياتية قوانين تحكم الواقع وكل ما يحدث فيه من أمور بحيث لا تترك مجالا للصدفة فيها.
(وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) لا يدركون نتائج أعمالهم لأنهم لا يتابعون دراسة المقدمات ولا يتحركون ليأخذوا بأسباب العلم ، ليعرفوا كيف يستنبطون منه الحقيقة.
__________________
(١) مجمع البيان ، ج : ٩ ، ص : ١٠١.