لا حقيقة لها في أنفسها ولا ثبوت لها في الخارج ، فليست النار حارة ، ولا الماء باردا ، ولا الثلج أبيض ولا القار أسود ، بل هي انفعالات تعرض للحواس فقط. فقيل لهم : لم اختص اللون بهذه الكيفية الخاصة لو لا اختصاصه في نفسه بتلك الكيفية؟
أجابوا : بأنّ الأجسام مركبة من أجزاء لا تنقسم فعلا ، بل فرضا ، وأشكالها مختلفة ، فبسبب اختلاف أشكالها واختلاف وضعها وترتيبها اختلفت الآثار الحاصلة في الحواس عنها ، فالذي ينفصل منه شعاع يفرّق البصر بياض ، والذي ينفصل منه شعاع يجمعه سواد ، ويحصل من اختلاط نوعي الشعاع الألوان المتوسطة. والذي يقطع إلى عدد أكثر وتكون أجزاء صغارا شديدة النفوذ هو المحرق الحرّيف (١) ، والمتلاقي لذلك التقطيع هو الحلو. والذي يحيطه أربعة مثلثات تكون مفرّقة لاتصال العضو تحس منه بالحرارة ، والذي يحيط به ستة مربعات تكون غليظة الأطراف (٢) غير نافذة في العضو فيحس منه بالبرد ، وكذا الروائح. فاختلاف الإحساسات لاختلاف الأشكال والحواس المنفعلة ، لا لاختلاف الكيفيات الفاعلة التي يثبتونها.
واحتجوا بأنّ الإنسان الواحد يحس جسما واحدا على لونين مختلفين بحسب اختلاف وضعه في الوقوف ، كطوق الحمامة ، فإنّها ترى شقراء وتارة ارجوانية وأخرى على لون الذهب بحسب اختلاف المقامات واستعداد المادة بحسبها. ولو كان اللون حقيقيا لم يكن كذلك. والسكر في فم الصّفراوي (٣) يجده مرا ، فاختلاف
__________________
(١) الحرافة : طعم يحرق اللسان والفم. وقيل كل طعام يحرق فم آكله بحرارة مذاقه حريف ، لسان العرب ٩ : ٤٥.
(٢) ج : «الاطراف» ساقطة.
(٣) الصفراء ؛ المرّة : مادة صفراء ، مرة المذاق ، يفرزها الكبد فتختزن في المرارة أو الحويصلة الصفراوية ، وهي تتألف من أحماض وأملاح وأصبغة ، وهي تساعد على هضم المواد الدهنية. البعلبكي ، موسوعة المورد ٢ : ٦٤.