المسألة الثالثة : في سبب كون الحرارة والبرودة فعليّتين وكون الرطوبة واليبوسة انفعاليّتين
قيل الحرارة والبرودة قد يحصل بينهما تفاعل وتأثير وتأثّر ، كما يحصل بين الرطب واليابس ، فلما ذا كانت الحرارة والبرودة فعليتين ، والرطوبة واليبوسة منفعلتين (١)؟! أجيب: بأنّ السبب في ذلك أمور ستة (٢) :
السبب الأوّل : الأضداد لا يجب أن تكون كلّها متفاعلة ، فإنّ الخفة والثقل ضدان ولا يؤثر ثقل الثقيل في خفة الخفيف مع بقاء طبيعته ، بل تغيّر خفة الخفيف وثقل الثقيل تابع لتغيّر طبيعة كلّ منهما. وكذا الرطب إذا خالط اليابس بلّه ، ولم ينقل اليابس عن يبوسته إلى الرطوبة فإنّه لم يثبت ذلك بالبرهان ، وكذا اليابس إذا خالط الرطب نشّفه ، فأمّا أن ينقله عن الرطوبة إلى اليبوسة ، مع بقاء طبيعته ، فلم يثبت بالبرهان أيضا. أمّا الحرارة والبرودة فإنّ البرهان قائم على انقلاب الحار باردا وبالعكس من غير أن يخالط كلّ منهما صاحبه ، على ما يأتي إن شاء الله تعالى في باب الكون والفساد.
السبب الثاني : الحار والبارد يفعلان في الرطب واليابس دون العكس ، فإنّ الحرّ يفيد الترقيق والرطوبة ، والبرودة تفيد التكثيف واليبس ، فالحرارة والبرودة كلّ واحدة منهما فاعلة في الأخرى ، وهما فاعلتان في الرطوبة واليبوسة. وأمّا الرطوبة واليبوسة فليس لواحدة منهما فعل في الأخرى ولا في الحرارة والبرودة ، فلهذا جعلت الحرارة والبرودة فاعلتين دون الرطوبة واليبوسة.
السبب الثالث : لو سلّمنا أنّ بين الرطوبة واليبوسة تفاعلا كما بين الحرارة
__________________
(١) طبيعيات الشفاء ، الفصل العاشر من الفن الثالث.
(٢) انظر الأجوبة في نفس المصدر ، والمباحث المشرقية ١ : ٣٩٣ ـ ٣٩٤.