ب : التكثف والسّيلان والجمود والتفرق والجمع أفعال ثبوتية متقابلة ، فلا يستند الواحد منها إلى الجسمية المشتركة ، وإلّا لاشتركت الأجسام فيه ، ولا إلى أمر عدمي ، لامتناع استناد الأثر الوجودي إلى المؤثر العدمي ، فلا بدّ من كيفيتين ثبوتيتين لتكونا مصدرين للأفعال المتقابلة.
ولو قيل : المؤثر في التكثف هو الجسمية بشرط عدم الحرارة ، لم يكن هذا أولى من أن يقال المؤثر في التسييل الجسمية بشرط عدم البرودة (١).
وفيهما نظر : أمّا الأوّل فلأنّه إذا كان المدرك نفس الجسمية لم يجب ادراك الجسم الحار على حالة البرودة ، لوجود أمر زائد على الجسمية مناف للحرارة.
قال أفضل المحققين : لا نسلّم أنّ العدم لا يحس به ، فإنّ الأمر العدمي إذا كان مقتضيا لأمر غير ملائم ، يحس به من جهة مقتضاه ، كتفريق الاتصال ، والجوع ، والعطش، فإن كانت البرودة عدم الحرارة ، وكانت الحاسّة محتاجة إلى حرارة تعدل مزاجها ، فعدم تلك الحرارة يقتضي أمرا غير ملائم فيها فيحس به. ولم يقل أحد إنّ عدم الحرارة هو الجسم ، حتى يكون الإحساس بالجسم احساسا بالبرودة. والحق أنّ البرودة كيفية تضاد الحرارة ، فإنّ مقتضاها كالتكاثف والثقل ضد مقتضيات الحرارة ، كالتخلخل والخفة (٢).
وفيه نظر : فإنّ الضرورة قاضية بأنّ كلّ محسوس موجود ، والعدم المقتضي لأمر غير ملائم لا نحس به ، بل بالمنافي ، كالألم عند تفرق الاتصال وعند الجوع وعند العطش. ولم يدعي المستدل أنّ عدم الحرارة هو الجسم ، بل قال : إذا أدركنا الجسم البارد فهنا شيئان : الجسم المطلق والبرودة ، فإن كانت البرودة عدم الحرارة ، والعدم لا يحس به لم يبق المحسوس إلّا الجسم المطلق. والاستدلال على كون البرودة كيفية مضادة لمضادة آثارها استدلال بالأخفى على ما هو ضروري.
__________________
(١) راجع المباحث المشرقية ١ : ٣٨٥ ؛ شرح المواقف ٥ : ١٨١.
(٢) نقد المحصل : ١٤٥ ـ ١٤٦.