وأنّه أقام فيهم يدعوهم إلى الإيمان بالله والتصديق به واتّباعه ثلاثا وثلاثين سنة ، فلم يؤمن به ولم يتّبعه من قومه إلا رجلان اسم أحدهما روبيل ، واسم الآخر تنوخا ، وكان روبيل من أهل بيت العلم والنبوّة والحكمة ، وكان قديم الصحبة ليونس بن متّى من قبل أن يبعثه الله بالنبوّة. وكان تنوخا رجلا مستضعفا عابدا زاهدا ، منهمكا في العبادة ، وليس له علم ولا حكم ، وكان روبيل صاحب غنم يرعاها ويتقوّت منها ، وكان تنوخا رجلا حطّابا يحتطب على رأسه ، ويأكل من كسبه. وكان لروبيل منزلة من يونس غير منزلة تنوخا ، لعلم روبيل وحكمته وقديم صحبته.
فلمّا رأى يونس أن قومه لا يجيبونه ولا يؤمنون ، ضجر وعرف من نفسه قلّة الصّبر ، فشكا ذلك إلى ربّه ، وكان فيما شكا أن قال : يا ربّ ، إنّك بعثتني إلى قومي ولي ثلاثون سنة ، فلبثت فيهم أدعوهم إلى الإيمان بك والتّصديق برسالاتي ، وأخوّفهم عذابك ونقمتك ثلاثا وثلاثين سنة ، فكذّبوني ولم يؤمنوا بي ، وجحدوا نبوّتي واستخفّوا برسالاتي ، وقد تواعدوني وخفت أن يقتلوني ، فأنزل عليهم عذابك ، فإنّهم قوم لا يؤمنون».
قال : «فأوحى الله إلى يونس : أنّ فيهم الحمل والجنين والطفل ، والشيخ الكبير والمرأة الضّعيفة والمستضعف المهين ، وأنا الحكم العدل ، سبقت رحمتي غضبي ، لا أعذّب الصغار بذنوب الكبار من قومك ، وهم ـ يا يونس ـ عبادي وخلقي وبريّتي في بلادي وفي عيلتي ، أحبّ أن أتأنّاهم وأرفق بهم وأنتظر توبتهم ، وإنّما بعثتك إلى قومك لتكون حيّطا عليهم ، تعطف عليهم لسخاء الرّحم الماسّة منهم ، وتتأنّاهم برأفة النّبوّة ، وتصبر معهم بأحلام الرسالة ، وتكون لهم كهيئة الطبيب المداوي العالم بمداواة الدّاء ، فخرقت بهم (١) ، ولم تستعمل قلوبهم بالرّفق ، ولم تسسهم بسياسة المرسلين ، ثمّ
__________________
(١) أي لم ترفق بهم وتحسن معاملتهم.