فلأجل نفي تلك الأقوال بالغ الأئمّة في وقوع البداء ، وبيان أنّه تعالى كلّ يوم في شأن من إعدام شيء وإحداث آخَر ، وإماتة شخص وإحياء آخَر ، إلى غير ذلك ؛ لئلاّ يترك العباد التضرّع إلى اللّه ومسألته (١) ، وطاعته والتقرّب إليه بما يصلح به اُمور دنياهم وعقباهم ، وليرجوا عند التصدّق على الفقراء وصلة الأرحام وبرّ الوالدين والمعروف والإحسان ما وعدوا عليها من طول العمر وزيادة الرزق ، وغير ذلك من المصالح والحِكَم العظيمة التي هو أعلم بها ، بل ربّما يظهر بعضها بإلهام من اللّه على من تأمّل صادقاً فيها .
ثمّ اعلم ثانياً أنّ الآيات والروايات تدلّ على أنّ اللّه تعالى خلق لوحين أثبت فيهما ما يحدث من الكائنات ، أحدهما : اللوح المحفوظ الذي لا تغيير فيه أصلاً ، وهو مطابق لعلمه تعالى ، والآخَر : لوح المحو والإثبات ، فيثبت فيه شيئاً ، ثمّ يمحوه ؛ للحِكَم الكثيرة التي أشرنا إلى بعضها ، مثلاً : يكتب في هذا اللوح أنّ عمر زيد خمسون سنة ، ومعناه مقتضى الحكمة أن يكون عمره كذا إذا لم يفعل ما يقتضي طوله أو قصره ، فإذا وصل الرحم مثلاً ، يمحي «الخمسون» ويكتب مكانه «ستّون» ، وإذا قطعها يكتب مكانه «أربعون» ، وفي اللوح المحفوظ أنّه يصل ـ مثلاً ـ وعمره ستّون ، كما أنّ الطبيب الحاذق إذا اطّلع على مزاج شخص فحكم بأنّ عمره بحسب هذا المزاج يكون ستّين سنة ، فإذا شرب سمّاً ومات أو قتله إنسان فنقص عن ذلك ، أو استعمل دواءً قوي مزاجه به فزاد عليه لم يخالف قول الطبيب .
فهذا التغيير الواقع في هذا اللوح يُسمّى بالبداء تجوّزاً ، كما أشرنا إليه ،
__________________
(١) في « م » زيادة : «والدعاء» .