أهلك والليل معناه : الحق أهلك قبل الليل (١) ، فربّما دعا ذلك من لا دربة له إلى أن يقول : أهلك والليل فيجرّه ، وإنما تقديره الحق أهلك وسابق الليل. وكذلك قولنا : زيد قام ، ربّما ظنّ بعضهم أنّ زيدا هنا فاعل في الصنعة ، كما أنه فاعل في المعنى ، وكذلك تفسير معنى قولنا : سرّني قيام هذا وقعود ذاك ، بأنه سرني أن قام هذا ، وأن قعد ذاك ، وربما اعتقد في هذا وذاك أنهما في موضع رفع لأنهما فاعلان في المعنى. ولا تستصغر هذا الموضع ، فإن العرب قد مرّت به ، وشمّت روائحه ، وراعته. وذلك أن الأصمعي أنشد شعرا ممدودا مقيّدا ، التزم الشاعر فيه أن يجعل قوافيه كلّها في موضع جرّ إلا بيتا واحدا ، وهو : [الرجز]
٣٢٣ ـ يستمسكون من حذار الإلقاء |
|
بتلعات كجذوع الصّيصاء |
ردي ردي ورد قطاة صماء |
|
كدريّة أعجبها برد الماء |
فطرد قوافيها كلّها على الجرّ إلا بيتا واحدا ، وهو قوله :
كأنّها وقد رآها الرّؤّاء
والذي سوّغه ذلك ـ على ما التزمه في جميع القوافي ـ ما كان على سمته من القول ، وذلك أنّه لمّا كان معناه : كأنها في وقت رؤية الرؤاء ، وعلى حال رؤية الرؤاء ، تصوّر معنى الجر من هذا الموضع ، فجاز أن يخلط هذا البيت بسائر الأبيات ، وكأنه ، لذلك ، لم يخالف. ونظير هذا عندي قول طرفة : [الرمل]
٣٢٤ ـ في جفان تعتري نادينا |
|
وسديف حين هاج الصّنّبر |
يريد الصّنّبر ـ فاحتاج في القافية إلى تحريك الباء ، فتطرق إلى ذلك بنقل حركة الإعراب إليها ، تشبيها بباب قولهم : هذا بكر ، ومررت ببكر ، وكان يجب على هذا أن يضمّ الباء فيقول : الصنبر ، لأن الراء مضمومة ، إلا أنه تصوّر معنى إضافة الظرف إلى الفعل ، فصار إلى أنه كأنه قال : حين هيج الصنبر ، فلما احتاج إلى حركة الباء تصوّر معنى الجرّ ، فكسر الباء ، وكأنه قد نقل الكسرة عن الراء إليها. ولو لا ما أوردته من هذا لكان الضمّ مكان الكسر ، وهذا أقرب مأخذا من أن تقول : إنه حرف القافية للضرورة.
__________________
(١) انظر الكتاب (١ / ٣٣١).
٣٢٣ ـ الرجز لغيلان الربعي في لسان العرب (تلع) ، والخصائص (١ / ٢٨٠) ، وتاج العروس (تلع) ، وبلا نسبة في لسان العرب (لقا) ، وجمهرة اللغة (ص ٢٤٢).
٣٢٤ ـ الشاهد لطرفة في ديوانه (ص ٥٦) ، ولسان العرب (صنبر) ، وتهذيب اللغة (١٢ / ٢٧١) ، وتاج العروس (صنبر) ، والخصائص (١ / ٢٨١)