على أطرافه بقدر ما يسّر الله لهم من الأنبياء والأولياء والعلماء على اختلاف طبقاتهم يحسب اختلاف قوّتهم ، وما قدّر الله لهم من السعادة الأزليّة ، وهو العلم المطلوب بالذات ، وبه يتوصّل إلى اقصى السعادات ، وينال أشرف اللذّات ، وهو العلم المكنون الذي لايسطر في الكتب العلميّة ، وإنما يعين عليه أوّلاً التعلم ومشاهدة علماء الآخرة والاعتبار بأحوالهم وأطوارهم بعد معرفتهم باماراتهم وآثارهم وآخراً المجاهدة وتصفية القلب وتفريغه عن علائق الدنيا حتى يتّضح المراد بعد السعي والاجتهاد بقدر القابليّة والاستعداد ، وعلم الأخلاق الذي به يسلك إلى العلم الأوّل ، كما أشرنا إليه.
ومنها : ما لا يحمد منه الا مقدار مخصوص ، كالعلوم التي أشرنا إليه في فروض الكافايات ، فإنّ في كلّ منها اقتصاراً واقتصاداً واستقصاء.
فكن ياحبيبي ـ وفّقك الله وإيّاي ـ إمّا مشغولاً بنفسك ، أو متفرّغا بعد الفراغ منها إلى غيرك ، وإيّاك أن تشتغل بما يصلح غيرك قبل أن اصلاح نفسك ، فإن كنت الأوّل فلاتشتغل منه الا بما هو فرض عليك بحسب ما يقتضيه حالك من العبادات والمعاملات التي تحتاج إليها ولو تقليداً لمجتهد حيّ ، ثم اشتغل بالأهمّ الذي هو علم صفات القلب ومهلكاتها ومنحياتها ، فإنّ إهمالها مع الاشتغال بالأعمال الظاهرة يشبه الاشتغال بطلاء ظاهر البدن عند التأذّي بالجرب والدماميل ، والتهاون بإخراج المادّة بالفصد والحجامة والاسهال ، فلا يزال يتعب في الطلاء ويزيد في المواد والأمراض ، ولاتنظر إلى سهولة أعمال الجوارح وصعوبة أعمال القلب ، وعلّ همّتك بتحصيل ما يثمر النجاة في الآخرة من العلم بعللك الباطنة وأسبابها وعلاجها حتّى يوصلك إلى المقام الأعلى ، فإنّ الأرض إذا نقيت من الكثافات نبت فيها أصناف الرياحين ، ومالم تفرغ عن ذلك لاتشتغل بفروض الكفايات سيّما وفي الخلق من قد قام بها فما أشدّ حماقة من دخلت الأفاعي والعقارب داخل ثيابه وهمّت بقتله وهو يذبّ الذباب عن من لاينجيه ولايغنيه.